وكتب السنة تختلف فيها الروايات زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا وتصحيحا وتضعيفا، والمحدثون يعرفون الفرق بين روايات ونسخ سنن النسائي وابي داود وابن ماجة والترمذي مثلا، ويعلمون لم اشترط أهل النظر والتثبت منهم مراجعة نسختين معتمدتين - على الأقل – لكل كتاب منها.
وقد وفقني الله فانتبهت إلى ضرورة البحث عن منهج مناسب لمثل هذه الكتب خلال تحقيقي لكتاب الحافظ أبي عبدالله الحاكم معرفة علوم الحديث، حيث إنني وقفت على عدة روايات لهذا الكتاب فكان لا بد من إخراجها جميعها كاملة في كتاب واحد، دون خلط أو تلفيق.
فاعتمدت في المتن رواية مشهورة وأثبت فروق النسخ في الهوامش، ورمزت للروايات بنسخها، ولو أني رمزت للنسخ برواياتها لكان أحسن.
وهذا لا يعني أن نعتمد في المتن الرواية الأم بعجرها وبجرها دون تصحيح ما قد يقع فيها من تصحيف ظاهر، أو غلط واضح.
وهذا المنهج هو المنهج الذي اعتمدها علماؤنا في ضبط نسخ البخاري وتحقيقها.
وهو منهج يعتمد على ضبط الروايات وتنقيحها في كتاب واحد، فيجعل لك الفربري كله في متناول يدك، مع أن كل رواية عنه نسخة وكتاب مستقل.
وفي نسختنا هذه، اعتمد في الأصل رواية أبي زيد المروزي، وهي من أحسن الروايات، وهو من أضبط الرواة، وإسناد النسخة ثابت في الأصل، ثم قام الناسخ (وإن شئت قلت: المحقق أو الباحث) بسوق إسناد روايات أخرى ليست في أصل الكتاب، فذكر رواية كريمة وأبي الوقت، وهما مقيدان عنده في كتاب آخر، ثم اطلع على نسخة ابي ذر ولم يكن له فيها إسناد فيذكر وهذا كتاب آخر، فتحصل له نحو اربع كتب أي نسخ من صحيح البخاري، فاختار كتاب أبي زيد لما ذكرته عنه وعن روايته، ولحسن خطها وضبطها، فاعتمدها أصلا للتحقيق، ثم عمد إلى نسخ البخاري فرمز لها رموزا، وأثبت في هوامش النسخة الأصل فروقات هذه النسخ، فاستغنى بكتاب عن أربع كتب، جمع فيه ما تيسر له من روايات البخاري.
وقد وجد بالاستقراء أن الاختلاف بين النسخ يكون بإبدال كلمة مكان كلمة، أو زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، وقد تعامل نساخ البخاري مع هذه الفروقات، فالكلمة المختلف فيها يعيدون كتابتها في الهامش بالرواية الأخرى ويكتبون فوقها رمز الرواية.
والسقط يرمزون له بـ: س، ويحددونه بـ: من لا، أو: ليس ثم يذكرون النسخة مرموزا لها، ويحددونه بـ: من إلى ونحو ذلك.
وأما التقديم والتأخير فيحددونه كتابة في الهامش.
وإذا اختلفت النسخ في ضبط الكلمة بحيث لا يمكن جمع الضبط في المتن فصل في الهامش، كما في نسختنا هذه لما ضبط " كخ كخ " بتنوين الكسر والضم وبالإسكان كتبه كله بالهامش مفصلا.
وكذلك ما كان مضروبا عليه يكتب ضرب عليه في نسخة كذا من إلى.
مثاله: قول البخاري: " وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ " هذا ثابت في رواية أبي زيد وغيره ولكن في أصل القابسي مضروب عليه، وهو ثابت في أصل الأصيلي، بين ذلك تلميذهما المهلب في كتاب النصيح، ثم علل ضرب القابسي عليه في نسخته بأنه لم يعرف معناه إذ كان قد تصحف عليه!
وهذا المنهج المذكور لا نكاد نجده في النسخ المطبوعة والمنتشرة بين الناس، فهي نسخ تجاريةلم تعتمد على أصل مسند، فهي مجهولة الهوية أولا، واعتمدت على تلفيق النص فهي محرفة المتن ثانيا.
وهذا المنهج في تحقيق البخاري هو المعتمد عند العلماء، المستعمل بينهم.
وهذه النسخة القديمة من رواية أبي زيد من أوضح الحجج على هذا المنهج، وسأذكر على سبيل المثال بعض من اعتمده منهجا له من العلماء المعروفين.
ذكر الحافظ في ترجمة أحمد بن عبد الوهاب النويري (من الدرر الكامنة) أنه نسخ من البخاري ثماني نسخ وكان يكتب النسخة ويقابلها وينقل الطباق والروايات عليها ويبيعها بألف أهـ
وكذلك حال النسخ المشهورة الموثوقة لدى العلماء إنما حصلت على هذه المنزلة لأخذها بهذا المنهج.
¥