أمانيَّ ([27]) ".
وإذا كان بعض الشعر الجاهلي قد وصلنا مكتوباً مدوَّناً، وكُتب بيد الجاهليين أنفسهم فلا داعي للإنكار، وقد أثبت القرآن الكتابة للعرب فقال: "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها ([28]) "
كما أثبت لهم القراءة فقال: "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر من الأرض ينبوعاً"، إلى قوله تعالى: "أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تُنزل علينا كتاباً نقرؤُه ([29]) ".
ويتضح لنا أن الدكتور طه حسين كان يؤمن بأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يجب أن تدرس الحياة الجاهلية في مرآته، حيث يقول: "فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي ([30]) ".
ومن المعلوم لدى الدكتور أنه من غير المعقول أن يقوم الشعراء بتأليف الشعر. وهو مجهود عقلي يحتاج إلى وقت من غير أن يكون لدى الشاعر صحيفة يكتب فيه شعره ليعاوده مرة بعد مرَّة ومن ثم قال جويدي: "إن قصائد القرن السادس الميلادي لجديرةٌ بالإعجاب، تُنْبِئ بأنها ثمرة صناعية طويلة، فإن ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها، ونحوها، وتراكيبها وأوزانها يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستوِ لها تلك الصورة الجاهلية إلاَّ بعد جهود عنيفة بذلها الشعراء في صناعتها ([31]) ".
وهذا الجاحظ يدلي برأيه في هذه المشكلة فيقول: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده زمناً طويلاً، يردِّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلِّب فيها رأيه اتهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه فيجعل عقله زماماً على رأيه، ورأيه عياراً أعلى شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوَّله الله من نعمته، وكانوا يسمُّون تلك القصائد الحوليات والمقلدات، والمحكمات، ليصير قائلها فحلاً حينئذ، وشاعراً مغلقاً ([32]) ".
وأوضح الأدلة على كتابة العشر الجاهلي المعلقات "فقد ذهب الأكثرون من العلماء إلى أنها استمدَّت تسميتها من تعليقات على الكعبة ([33]) ".
وعلى الرغم من أن الدكتور الحوفي يرفض "رأي القائلين بتعليقها على الكعبة جملة وتفصيلاً ([34]) ". حيث قال: "كيف نصدق أن العرب كتبوا هذه القصائد بماء الذهب على القباطي، وهم كانوا أمة أُميَّة ندر فيها من يقرأ ويكتب، وهل من المعقول أن ينبغ فيهم من يجيد الكتابة، حتى يكتب بماء الذهب على القباطي؟ وماذا يدعوهم لكتابة هذه القصائد، وتعليقها على الكعبة ما دامت الأميَّة فاشية فيهم ([35]) ".
وعلى الرغم من هذا الرفض فإننا نؤمن بالاتجاه الذي يقول: إنها علقت على الكعبة، أما دليل الدكتور الحوفي فقد نقضناه حينما أثبتنا أن العرب ليسوا أميين بشهادة القرآن نفسه.
وقد كانت الكعبة مقدسة لدى العرب، وكان هذا التقديس في نفوسهم يدفعهم إلى تعليق ما كثرت قيمته عندهم. فهذه القصائد كانت لديهم ذات قيمة فعلَّقوها كما علَّقوا غيرها.
وظل هذا التعليق سنَّة متبعة، وعرفاً لا ينكر. حدَّث محمد بن يحيى عن الواقدي عن أشياخه قال: "لما فتح عمر بن الخطاب رضى الله عنه مدائن كسرى كان ممَّا بُعِثَ به إليه هلا فبعث بهما فعلقهما في الكعبة ... وكان هارون الرشيد قد وضع في الكعبة قصبتين علَّقهما مع المعاليق في سنة ستِّ وثمانين ومئة، وفيها بيعة محمد وعبد الله ابنيه، وما عقد لهما وما أخذ عليهما من العهود ([36]) ".
وأعتقد بوجود إجماع على إعجاز القرآن وبلاغته، وأن النحو القرآني جاء على سنن ما تنطق به العرب، وباختصار فإن القرآن يتميز بقوِّة لا تجارى، وبلاغة لا تنازع، وفصاحة لا تبارى، وأضيف القول: إن هذه الأدلة كلَّها تثبت أن العصر الجاهلي لم يكن خيالاً، وإنما كان حقيقة واقعة، وتاريخاً ينطق بالحق والبرهان.
3 ـ عيوب الشعر الجاهلي:
لا نعني بالدفاع عن الشعر الجاهلي وقيمته التاريخية أنه كان خُلْواً من العيوب، بريئاً من النقد، ومن هذه الناحية لا نستطيع أن نضعه بجانب القرآن الكريم في مجال الاستشهاد به على اللغة والنحو، وإنما نضعه في منزلة تلي منزلة القرآن الكريم. أما عيوب هذا الشعر فقد تجرَّد لها العلماء منذ زمنٍ قديم محاولين الكشف عنها بما أُوتوه من خبرة، تضع الموازين القسط لهذا الشعر، وتقيم الأسس التي تبيّن خطأه أو صحته.
ومن النقاد الذين قاموا بهذه النقد أبو العلاء المعرِّي، فقد ذكر المعرِّي بشأن البيتين التاليين اللذين تنطوي عليهما معلَّقة عمر بن كلثوم:
تصدُّ الكأس عنَّا أُمُّ عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا
¥