لقد وضع بعض رواة الشعر أشعاراً، ودسُّوها في القصائد ونسبوها إلى غير أصحابها، كحمَّاد الذي "كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار ([47]) ". وقد قال يونس عنه: "العجب لمن يأخذ عن حمَّاد، كان يكذب، ويلحن، ويكسر ([48]) ".
وابن دأب الذي كان "يصنع الشعر، وأحاديث السمر، وكلاماً ينسبه إلى العرب ([49]) ".
وخلف الأحمر الذي تحدث عن نفسه فقال: "أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا عليَّ به، فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت، فقلت لهم: ويلكم: أنا تائب إلى الله، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا منِّي، فبقي منسوباً إلى العرب لهذا السبب ([50]) ".
وكان هذا الشعر المدسوس يعتمد عليه النحاة في استنباط القاعدة واستخراج الأصول حتى كتاب سيبويه لم يخلُ من وبائه أو يسلم من شرِّه، فقد "وضع المولودون أشعاراً، ودسُّوها على الأئمة، فاحتجُّوا بها ظنَّاً أنها للعرب، وذكر أنه في كتاب سيبويه منها خمسين بيتاً، وأن منها قول القائل.
أعرف منها الأنف والعينانا * ومنخرين أشبها ظبيانا ([51]) "
6: الإقواء:
ومن عيوب الشعر الإقواء، وهو اختلاف حركة الرويّ، وزعموا أن بعضاً من الشعراء القدماء قد وقعوا في هذا العيب، ويروون لهذا قصة عن النابغة الذبياني ويقولون: "إنه نظم قصيدته التي مطلعها:
أَمِن آلِ ميَّة رائحٌ أو مغتدي * عجلان ذا زادٍ، وغير مزوَّد
وجعل حركة الرَّويّ في أبياتها الكسرة إلاَّ في بيتٍ قال فيه:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً * وبذاك حدَّثَنا الغراب الأسود ([52]) "
وينكر الدكتور إبراهيم أنيس هذا العيب في الشعر الجاهلي فيقول: "وعندي أنه لو صحَّت مثل هذه الروايات يجب أن تُعَدَّ خطأً نحوياًن لا خطأً شعرياً، فالشاعر صاحب الأذن الموسيقية والحريص على موسيقى القافية لا يعقل أن يزل في مثل هذا الخطأ الواضح الذي يدركه حتى المبتدئون في قول الشعر ([53]) ".
وفي رأيي أن خطأ النابغة في الشعر أسهل من خطئه في النحو، لأن العربيّ لا يخطئ في اللغة، لأنه يتكلمها سليقة وطبعاً وبخاصة في مجال القول، والنابغة الذبياني صاحب هذا الخطأ النحوي ـ كما يقول الدكتور أنيس ـ كانت "تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها ([54]) ".
كيف يخطئ النابغة في النحو، وهو الناقد للشعر، بل الحَكَم بين الشعراء؟ على أن النابغة ليس أول من ٌأقوى من الشعراء "فقد قيل لأبي عمرو بن العلاء: هل أقوى أحد من فحول شعراء الجاهلية كما أقوى النابغة؟ قال: نعم بشر بن أبي خازم، قال:
ألم تَرَ أَنَّ طول الدهر يسلى * وينسى مثل ما نَسِيَتْ جذام
وكانوا فوقنا فبغوا علينا * فسقناهم إلى البلد الشآمي ([55]) "
وقال قدامة بن جعفر: "وقد ركب بعض الفحول الإقواء في مواضع منها قول سحيم بن وئيل الرياحي:
عذرت البُزْلَ إن هي خاطرتني * فما بالي، وبال ابن اللبونِ
وماذا تدَّرِى الشعراء مني * وقد جاوزت حدَّ الأربعينَ
فنون الأربعين مفتوحة، ونون اللبون مكسورة ([56]) ".
وكما أقوى بعض شعراء الجاهلية أقوى بعض شعراء الإسلام كجرير الذي روي أنه قال:
عرين من عرينة ([57]) ليس منَّا * برئت إلى عرينة من عرين
عرفنا جعفراً وبني عُبَيْد * وأنكرنا زعانف آخرينا ([58])
ومالي أذهب بعيداً وقد ذكر صابح القاموس في مادة (قوى) ما نصه: "وقلت قصيدة لهم بلا إقواء ([59]) ".
وفي هذه النصوص التي قدمتها ما يدل على أن الإقواء ليس بدعاً، وليس مقصوراً على النابغة وحده، وإنما شارك في ذلك شعراء سابقون ولاحقون، وهل يقال عن هؤلاء جميعاً إنهم يخطئون في النحو، والنحو من كلامهم أُخذ؟ فعلى أيِّ الشعراء إذاً نعتمد في تقعيد القواعد، واستخراج الأصول؟
على أنه كان من الممكن للدكتور إبراهيم أنيس أن يخرج من هذا المأزق كما خرج منه نقَّاد الأدب فيقول كما قال قدامة في هذا الإقواء: إن الشاعر: "وقف القوافي فلم يحركها ([60]) "، أو كما قال الدكتور عبد الله الطيب في هذا الموضع: "ويظهر أن الأذواق الجاهلية كانت تقبل هذا، ولعلَّ السبب في قبولها له أنهم كانوا يقفون كثيراً بالسكون في القوافي المطلقة، فيقولون: مزوَّد، والأسود ([61]) ".
وبعد، أليس هذا القول أجدى وأولى من أن يقال: إن الشاعر الجاهلي أخطأ في النحو؟
7: الخلط بين القبائل في جمع هذا الشعر:
¥