تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وحينما جمع الشعر العربي من أفواه الرجال، أو من صفحات الكتب لم يُعْنَ الرواة بإسناد كل شعر إلى القبيلة التي ينتمي إليها الشاعر، ومن ثَمَّ فإننا نجد في الشعر لهجات عديدة، ولغات مختلفة، ولم يحاول النحاة حينما وضعوا قواعدهم أن يميزوا بين القبائل، وأن يضعوا لكل قبيلة قواعدها الخالصة في مرآة شاعرها أو شعرائها.

إنهم لو فعلوا ذلك لأراحونا من هذا الاضطراب والتناقض في وضع القواعد.

من أجل هذه العيوب كلِّها التي أجملناها في هذا المقام نرى أن القرآن الكريم هو المصدر الذي يجب أن نتجه إليه في كل قاعدة نقيمها، وفي كل حكم نصدره، وفي كل أسلوب ننشئه.

ثانياً: موازنة بين الاستشهاد بالقرآن، والاستشهاد بالحديث الشريف:

لم يكن الاستشهاد بالحديث الشريف موضع اتفاقٍ بين النحاة، فأبو الحسن بن الضائع وأبو حيَّان ذهبا إلى أن الاحتجاج بالحديث في الدراسات النحوية واللغوية لا يجوز. قال ابن الضائع في شرح الجمل: "تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة ـ كسيويه وغيره ـ الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك. على القرآن الكريم، وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، لأنه أفصح العرب ([62]) ".

ويرى آخرون خطأ هذا الرأي، ذلك لأنه مهما أنكر النحاة هذا الاحتجاج بالحديث، فإن إنكارهم يفقد قيمته إذا عرفنا أن الرواة كانوا يتحرون ويضبطون الأحاديث حتى لا يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها أو يُغَيِّروا في كلماتها، وهي في ميدان التوثيق والضبط أقوى من الأشعار التي صُنِعت أو دُست، أو الأشعار الحائرة التي لا تعرف لها أباً ولا جدّاً.

على أن بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة كانوا لا يجوّزون "نقل الحديث إلاَّ باللفظ دون المعنى. وممَّا يروى عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يحدِّث من الأحاديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به ([63]) ".

وعلى الرغم من رأي المدافعين عن الاستشهاد بالحديث فإن ـ ثغرة ـ الرواية بالمعنى لا تؤهلها للوصول إلى مستوى الاستشهاد بالقرآن الكريم في باب التوثيق ومجال القاعدة، واستنباط الأصول اللغوية والنحوية.

ثالثاً: آراء العلماء في الاستشهاد بالقرآن وأثره في النحو واللغة:

وأرغب في نهاية هذا البحث تسجيل آراء بعض العلماء في فضل القرآن الكريم على اللغة، وأثره في النحو لأبيِّن أنني لست وحدي صاحب هذا الاتجاه، أو رائد هذا الميدان، وذلك في ما يلي:

1 ـ إن أمماً كثيرة تركت لغتها تتطور وتفرَّع إلى لغات كثيرة دون أن تعنى بضبطها، والوقوف في سبيل تطورها ولكن علماء الإسلام عنوا بضبط لغتهم من أجل المحافظة على القرآن الكريم، فنشأت هذه الظاهرة العجيبة، وهي أنه لو قُدِّر أن يحيا اليوم رجل مات منذ ألف سنة فسمح المتحدِّثين بالعربية لما أنكرها، ولفهمها ([64]).

2 ـ إن هذا الكتاب السماوي ـ القرآن الكريم ـ منارة تتلألأ يهتدي بها العاملون لإرساء قواعد اللغة، وإبقائها في سلامة وصحة، وأنا أعتقد أن كل تيسير، وكل أمر ينزع بنا بعيداً عن هذه المنارة المتلألئة التي نقدر جميعاً بإيمان أنها كانت سبباً في نشر اللغة، وفي ربطها بشعوب كبيرة، كل تيسير ينأى بنا عن قواعد وأصول هذه المنارة لا يؤبه له، ولا يعمل به ([65]).

3 ـ لولا القرآن الكريم لكان من المشكوك فيه كثيراً أن يتوافر العلماء على وضع علم النحو، وعلوم البلاغة، واستقصاء المفردات وتحرِّي مصادر الفصيح والدخيل ....

ومما لا خوف فيه أن اللغة العربية نشطت هذا النشاط، وتقدمت هذا التقدم لأنها لغة كتاب مقدس يدين به المسلمون، وهو القرآن الكريم ([66]).

4 ـ لولا هذه العربية التي حفظها القرآن الكريم على الناس، وردهم إليها، وأوجبها عليهم لما اطردَّ التاريخ الإسلامي، ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ([67]).

يقول المعجم الفرنسي الكبير: "إن اللغة تشارك الأمة أقدارها، فإذا ضعفت الأمة وتهافتت ماتت اللغة، ولا أمَل في بعثها بعد أن تموت".

أما اللغة التي تبقى بعد تفرُّق أمتها، فهي التي أودعتها السماء رسالة أو التي أودعها الشعراء والأدباء والعلماء أفكاراً سامية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير