فإذا علمنا ذلك كله فإن برهان الدين النسفي (ت687) صاحب (الفصول) من أصحاب هذا الجدل المحدث الذين سلكوا مسلك العميدي كما نص عليه ابن خلدون في المقدمة: 507. وكتابنا هذا رد عليه.
ولننظر الآن إلى هذه النصوص في أثناء الكتاب:
ص260 (وإنما حاققنا فيها .. الجدليين أصحاب الجدل المحدث).
ص328 (كما يفعله هؤلاء أرباب الجدل المحدث).
ص330 (أصحاب هذا الجدل).
ص401 (أهل الجدل المحدث).
فبات واضحًا الآن أن كتابنا هذا رد على أصحاب الجدل المحدث (الجُست ــ طريقة العميدي) متمثلاً في كتاب النسفي (الفصول).
ولنذكر أيضًا بعض المواضع التي تبرهن على أن غرض كتابنا نقض هذه الطريقة في الجدل المحدث المموَّه وتزييفها لا أنه شرح كسائر الشروح كما زعم الزاعم:
قال شيخ الإسلام: (متى عرفت هذا تبين لك فساد جميع هذا الباب, وأمكنك إبطال نكت هؤلاء الملبسين بأدنى شيء, وعلمت أن العاقل لا يرضاها البتة ولا يستحسن الكلام بمثلها) ص23.
وقال: (واعلم أني نبهتُ على فساد هذه النكت لأنها مما اعتمد عليه بعض هؤلاء المموهين المغالطين من الجدليين) ص24.
وقال: (وهذا أيضًا من قواعدهم الفاسدة التي يبنون عليها كثيرًا من كلامهم, فيرجحون أحد الخصمين بكثرة دعاويه, كما يرجحونه بإبهام دعواه, ولا يخفى على عاقل أنه باطل) ص98.
وقال: (والغرض أن نبين فساد الطريقة الجدلية ... ) ص131.
وقال: (هذا كله مبني على محض التحكم بلا مرجح, وعليه مبنى عامة كلام الجدليين المموهين) ص134.
وقال: (وهو مسلك رديء جدًّا ... وإنما يسلكه من لا خلاق له من المغالطين) ص358 - 359.
وقال: (فاحذره فإنه باب عظيم من باب أغاليط هؤلاء المغالطين) ص388.
ومثل هذا في عشرات المواضع من الكتاب, وهذه إشارة إلى بعضها: (ص16, 28, 36, 39, 43, 62, 63, 64, 84, 90, 92, 172, 178, 190, 199, 204 ـــ 205, 209, 210, 260,,301, 310, 314, 361, 378, 445).
فتبين لكل ذي عينين أن كتابنا ليس شرحًا كباقي الشروح أو حاشية لكتاب الفصول بل هو نقدٌ للكتاب ونقض له، وإبطال لطريقة الجدل المحدث التي انتهجها العميدي (ت606) وتبعه عليها النسفي.
وهذا لا يعني أن لا يقع في كلام النسفي وغيره ممن ألف في هذه الطريقة شيءٌ من الحق، بل قد يقع منهم ذلك، بل نص على ذلك شيخ الإسلام في مقدمة الكتاب التي حفظها لنا ابن عبد الهادي (ت744) في ((ترجمة شيخه)): 34 - 35. قال: (ومع ذلك فلا بد أن يدخل في كلامهم قواعد صحيحة ونكت من أصول الفقه مليحة، لكنهم إنما أخذوا ألفاظها ومبانيها دون حقائقها ومعانيها، بمنزلة ما في الدرهم الزائف من العين، ولولا ذلك لما نفق على من له عين. فلذلك آخذ في تمييز حقه من باطله وحاليه من عاطله .. ). وهو ما نص عليه أيضًا في أثناء الكتاب ص445 كما سيأتي نقله
القرينة الثالثة: إذا تبين هذا فلننظر إلى مقدمة الكتاب التي حفظها لنا ابن عبد الهادي، ومدى تطابقها مع موضوع المخطوط الذي عثرنا عليه. إذ سرد شيخ الإسلام في تلك المقدمة تاريخ علم الجدل والمراحل التي مر بها، فذكر المرحلة الأولى والثانية ثم ذكر الثالثة المحدثة فقال:
(ثم إن بعض طلبة العلوم من أبناء فارس والروم صاروا مولعين بنوعٍ من جدل المموهين استحدثه طائفة من المشرقيين وألحقوه بأصول الفقه في الدين، راوغوا فيه مراوغة الثعالب، وحادوا فيه عن المسلك اللاحب، وزخرفوه بعبارات موجودة في كلام العلماء قد نطقوا بها غير أنهم وضعوها في غير مواضعها المستحقة لها، وألفوا الأدلة تأليفًا غير مستقيم وعدلوا عن التركيب الناتج إلى العقيم .. ).
قارن هذا النصَّ الأخير الذي سقناه من مقدمة (التنبيه) التي حفظها لنا ابن عبد الهادي بقول المؤلف في الكتاب ص445: (واعلم أن نكت هؤلاء المموهين إذا صح بعضها وكان مبنيًّا على أصول الفقه، فإنه لا بد من حشوٍ وإطالة وذِكْر ما لا يفيد، ووقف الاستدلال على ما لا يتوقف، وإدخال ما ليس من مقدمات الدليل في المقدمات، فهي دائرة بين تغليط وتضييع، وبين الإحالة والإطالة، وبين الباطل الصريح والحشو القبيح). فإنهما قد خرجا من مشكاة واحدة.
¥