ثم إذا نظرنا ثانيةً في مقدمة الكتاب التي ساقها ابن عبد الهادي نجد أن سبب تأليف الكتاب كان طلبًا من بعض الطلاب قال: (فلما استبان لبعضهم أنه كلام ليس له حاصل، ولا يقوم بإحقاق حق ولا إبطال باطل = أخذ يطلب كشف مشكله وفتح مقفله، ثم إبانة علله وإيضاح زلله، وتحقيق خطئه وخطله، حتى يتبين أن سالكه يسلك في الجدل مسلك اللدد، وينأى عن مسلك الهدى والرشد، ويتعلق من الأصول بأذيال لا توصل إلى حقيقة ويأخذ من الجدل الصحيح رسومًا يموِّه بها على أهل الطريقة).
ونجد المؤلف في الكتاب (ص210) يقول إشارةً إلى هؤلاء الطلاب: (وإنما ذكرتُ هذا لأنَّ بعض الطلبة قال: أُحِبُّ أن تذكر لي في آخر كلامك مَن فَلَجَ بالحجة من المستدل والمعترض , فذكرت ذلك).
ونقول أيضًا في تطابق المقدمة مع الكتاب: إنَّ كل من يقرأ مقدمة الكتاب التي اقتبسها ابن عبد الهادي يعرف أن المقصود الأصلي من الكتاب هو نقد جدل «المموّهين» وبيان «تمويهاتهم».
ثم إذا تصفَّح الكتاب متصفِّح وجد ذِكر ((تمويه الجدليين)) و ((الجدل المموّه)) وأصحاب ((الجدل المموهين)) ومشتقاته بكثرة , وهذه بعض المواضع:
ص23 (وعلى هذه الأغلوطة بنى المموه كلامه).
ص24 (اعتمد عليه بعض هؤلاء المموهين المغالطين من الجدليين). وأيضًا فيها (ولولا أنه ليس هذا موضع الاستقصاء في إفساد خصائص النكت المموهة، وإنما الكلام في عموم هذه الصناعة التمويهية).
ص30 (قد استدل عليه بالجدل المموَّه).
ص 63 (وكثيرًا ما يسلك هؤلاء المموهون هذا المسلك).
ص473 قال تعليقا على قول صاحب الفصول:يقال في الخلافيات (يعني به خلافيات أهل الجدل المموه، وإلا فالخلافيات المشهورة عند كل الطوائف لا يلتفتون فيها إلى هذا الكلام).
ومواضع أخرى: 64, 134, 190 (مرتين) , 296, 425، 428, 445, 472, 634, ولا نُطيل على القراء بنقل النصوص الموجودة فيها.
فهذا التطابق ــ لمن يتدبر ويفهم ــ لا يعني إلا شيئًا واحدًا: أن تلك المقدمة المحفوظة في كتاب ابن عبد الهادي هي لهذا الكتاب الذي نحن بصدده.
القرينة الرابعة: أن عنوان الكتاب (تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل)، فما مدى تطابق العنوان مع المضمون؟ انظر معي إلى عبارات المؤلف في الكتاب، حيث يقول في وصف النسفي صاحب الكتاب المردود عليه، ووصف أصحاب هذه الطريقة:
قال (ص187): «قال صاحب الجدل الباطل» ويقتبس من كلامه.
ويقول (ص39): «هو من أفسد أنواع الشغب والجدل الباطل».
ويقول (ص210): «الجدل الباطل لا يفلح فيه من سلكه استدلالاً وسؤالاً وانفصالاً, فإن من استدل بالباطل فهو مبطل, ومن ردَّ الباطل بالباطل .... فهو مبطل ... ».
وفي (ص84): «وهذا كلام أصحاب هذا النوع من الجدل ... ».
ويقول في (ص260): «إنما حاققنا فيها من عدَّها قاعدةً من نظرائه الجدليين أصحاب الجدل المحدث ... ».
وأشار إلى المراوغة ــ التي سبق في المقدمة أن وصفها بـ مراوغة الثعالب ــ بقوله (ص28): «وانقطع باب المراوغة الذي فتحوه». وبقوله (ص308): ((فكيف تروغ من هذه المعارضة مراوغة الثعلب الأملس)).
واقرأ أيضًا في الكتاب (ص16): «هذا الكلام على تعقيده وقبح التعبير به ــ لما فيه من الألفاظ المشتركة الخالية عن قرينة التمييز, ولما فيه من حشو كلماتٍ لا حاجة إليها ــ فهو مع خلوِّه عما يحتاج إليه في البيان, واشتماله على ما لا يحتاج إليه خالٍ عن الفائدة».
وفي (ص36): «وأمثلة هذا الكلام المزيف الذي لا يقوله عاقل كثيرة, حتى يتمكن مِن تقوُّلِه مَن استباح القضايا المتناقضة من التراكيب الفاسدة».
وفي (ص301): «وكثيرًا ما يستعملها هذا الجدليُّ في أغاليطه, بل كثير من الأغاليط إنما تروج بها, فإنه يغيّر العبارة ويكثّر الأقسام, ويُطيل المقدمات, ويجعل الشيء مقدمةً في إثبات نفسه من حيث لا يَشعُر الغبي».
واستهزأ شيخ الإسلام فيه (ص204ــ205) بهذا الجدل الباطل وأصحابه فقال: «واعلم أن هذا الكلام دعوى عارية ليس فيها زيادة على الدعاوي الماضية سوى تغيير العبارة وتطويلها بغير فائدة, وسلوك الطريق المعوجّة المنكوسة, وما مثل هذا إلاّ مثل من قيل له: أين أُذُنك اليسرى؟ فوضع يده اليمنى فوق رأسه, ثم نزل بها إلى أذنه, وترك أن يوصل إليها من تحت ذقنه ... ». إلى آخر ما في الكتاب في هذا الموضع.
¥