ما الحل الذي يقترحه للخلاص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في الإيمان بالمادة-والمادة وحدها- وفي الوقت ذاته لا يسبب الغلطة الأخرى بإهمال المادة وإنما يسير وسطاً، يلحظ جوانب الإنسان كلها، وجوانب الحياة الإنسانية كلها؟ ما المنهج الذي يجعل الإنسان سيداً للمادة، دون ان يهملها او يلجأ إلى سيكلوجية فرويد المضللة، او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟
وماذا عنده بعد هذا الإدراك العميق للكارثة التي تهدد الجنس البشري. ومناداته بضرورة (قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و (التنحي عن جميع المذاهب)؟.
إننا نستمع إليه فنسمع عجباً، ونرى عجباً كذلك!
(إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!
(إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقاً بأنفسنا. فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا .. وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها. إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم-علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وامكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.
(إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا ..
وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) اكثر العلوم ضرورة .. (ص44 - 45)
هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الإدراك العميق للكارثة المحيقة!
وانتهاء الرجل إلى هذا الاقتراح، واعتباره الحل الوحيد الممكن للمشكلة-مشكلة بقاء هذه البشرية متحفظة بإنسانيتها، او انحدارها منها وتراجعها إلى البربرية الوحشية- اعتباره إن الحل الوحيد الممكن هو (مزيد من علوم الإنسان) .. هو ظاهرة تلفت النظر بشدة-كما أسلفنا- إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم، بحيث تضعهم في قفص حديدي من (حدود العلم والواقع) لا يملكون الخروج من إساره! كما ان هذه الظاهرة تجزم بأن الحل لن يجيء من هناك! لأنه يحتاج إلى راقب يرقب الوضع من خارج القفص لا من داخله!
إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية-كما يميل دكتور كاريل في كتابه إلى تقريره- وإنما نتيجة طبيعة-تكاد تكون حتمية- لتقدير قيمة الإنسان ودوره، في التصور الزائف الذي قامت عليه هذه الحضارة، حين افترقت في نشأتها عن التصور الاعتقادي الصحيح. الذي يحمل تكريم الانسان، واعتباره خليفة الله في هذه الأرض ..
كما أن تلك الآفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل الإنتاج، والتي لا اعتبار فيها لإنسانية الانسان، وخصائصه الثمينة، وحاجاته الحقيقية .. إنما ترجع إلى الأنظمة الاقتصادية المنبثقة من تصورات ومناهج تتوخى العداء للتصور الاعتقادي وللأخلاق الدينية؛ وتسخر من فكرة تدخل العنصر الأخلاقي في نظام الحياة الاقتصادي!
كما أن اعتماد الناس على معلوماتهم القليلة .. او بتعبير أدق على جهلهم المطبق-كما يعبر دكتور كاريل- بفطرة الإنسان وحقيقته، في إقامة أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية .. لم يأت عفواً. إنما جاء نتيجة مباشرة لروح العداء لكل ما يجيء من عند الله؛ ومن كل ما يمدهم به المنهج الإلهي من معرفة بهذا الإنسان على حقيقته .. هذا العداء الذي قامت هذه الحضارة على أساسه. بسبب تلك الملابسات النكدة بين الكنيسة والعلم في أوروبا ..
ومن هذه الإيماءات السريعة ندرك أن الأمر اعمق بكثير مما يتصوره هذا العالم العالمي الكبير؛ ويقف عنده، بسبب القيود التي تشده بها عقليته، الناشئة في ظل تلك الحضارة العقيم!
* * *
¥