ثم أخبر سبحانه عباده المؤمنين بأنَّه عليمٌ بما تُجنُّه الصدورُ وتُخفيه القلوبُ، وفي ذلك تسليةٌ للمؤمنين عظيمةٌ عمَّا يكادُ يلحقُ بهم من غَمٍّ، لما يسمعونه من جَلَبَة المنافقين عليهم، وصَوْلَتهم وعداوتهم لهم؛ لأنَّ ما كان بعلمِ الربِّ سبحانه وكائنٌ لديه فهو المُجازي لفاعله المنتصِف من قائله، وكفى به سبحانه مُنصِفاً من الظالمين ومُنتقمًا من المُتخلِّقين بأخلاق المنافقين.
ثم بيَّن سبحانه لعباده حالَ هؤلاء بأكمل بيانٍ، وأَوضحَه بأتمِّ إيضاح، بحيث لا يبقى بعده رَيْبٌ، ولا يختلجُ عنده شكٌّ، فقال: ?إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا?، فجعل سبحانه مجرَّدَ مسِّ الحسنة للمؤمنين موجبًا لمُساءة المُتخلِّقين بأخلاق المنافقين، ومجرَّدَ إصابة ما يُساءُ به المؤمنون مُقتضيًا لحصول الفرج لهم، وليس بعد هذا من العداوة شيءٌ، فإنَّه النهايةُ التي ليس وراءها نهايةٌ، والغايةُ التي ليس بعدها غايةٌ.
ثم شدَّ سبحانه قلوبَ عباده المؤمنين، وطمَّنَ خواطرَهم، وأثلجَ صدورَهم، أنَّهم مع الصبر والتقوى لا ينالُهم من تلك الصَّولاتِ شيءٌ، ولا يعلَقُ بهم من تلك القعاقعِ ([4]) أمرٌ، ولا يصلُ إليهم ضررٌ البتَّة، كما يفيدُه قولُه سبحانه: ?لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا?، فجاء بلفظ شيء الذي يتناول مثقالَ الذرَّة وما دونه، فضلاً عمَّا فوقه، وليس بعد هذه التسلية الربَّانيَّة والتعزية الرحمانيَّة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد؛ فإنَّ هذه الألفاظ اليسيرة والكلمات الموجزة أفادتْ ما لم تُفدْه بلاغاتُ البُلغاء وفصاحات الفُصحاء، فإنَّ غاية ما نجدُه من كلامهم في هذا الشأن هو كقول قائلهم ([5]):
< table class="MsoNormalTable" dir="rtl" id="table10" border="0" cellpadding="0"> إن يسمعوا سُبَّةً طارُوا بها فَرَحًا
مِنِّي ومَا سمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وكقول الآخر ([6]):
< table class="MsoNormalTable" dir="rtl" id="table11" border="0" cellpadding="0"> إن يسمعوا الخير يُخفوه وإن سمعوا
شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفكوا
فإنَّ غاية ما في هذين البيتين أنَّهم يُخفون المحاسن وينشرون المساوئ، فأين هذا ممَّا وصفه الله سبحانه عنهم من إساءة الحسنة لهم وفرحهم بالسيِّئة؛ فإنَّ هذا أمرٌ وراء الإخفاء والإذاعة؛ فإنَّها لا تتأثَّرُ القلوبُ بالإساءة والفرح إلاَّ بعد تمكُّن العداوة والبغضاء تمكُّنًا زائدًا، وأما مجرَّد الإخفاء للخير والإذاعة للشرِّ فإنَّ ذلك يحصلُ لمن بُلي بمجرَّد الحسد.
ومع هذا؛ فإنَّ هذا النَّظْمَ القرآنيَّ يدلُّ على أنَّ مجرَّد ما يصلُ إلى المؤمنين مما يسمَّى حسنة يتأثَّر عنه المُساءةُ لأعدائهم، ومجرَّد ما يصلُ إلى المؤمنين مما يسمَّى سيِّئة يتأثَّرُ عنه الفرحُ لأعدائهم، كما يدلُّ عليه تنكيرُ الحسنة والسيِّئة، فإنَّ الظاهر فيه أنَّه تنكيرُ التحقير، فالحسنة الحقيرةُ والسيِّئةُ الحقيرةُ ـوإن بلغت إلى الغاية في الحقارةـ يتأثَّرُ عنها ذلك، فكيف بما كان فوق ذلك!
فإن قلتَ: قد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أوصاف أهل النفاق وما كانوا عليه، فمِن أين لك أنَّ بعض أهل عصرك كذلك؟
قلتُ: من وجدنا منه هذه الأوصاف التي اشتمل عليها الكتابُ العزيز فقد صدق عليه ما ذكره الله سبحانه في هذه الآيات، ولا شكَّ أنَّ المُتخلِّق بأخلاق المنافقين، المُقتدي بهم فيما كانوا يعاملون به المؤمنين لاحقٌ بهم، وغايةُ الأمر أنْ نتورَّعَ عن الحكم بالنفاق ونقول: من اتَّصف بهذه الأوصاف فهو مُتخلِّقٌ بأخلاق المنافقين، وهذا كلامٌ صحيحٌ لا يدفعُه دافعٌ ولا يردُّه رادٌّ، بل السنَّة المُطهَّرة تشهدُ له شهادةً أوضحَ من شمس النهار، وتُنادي عليه بأعلى صوتٍ، وذلك أنَّه صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ
¥