وأجلى من هذا اعتراض بعض أهل الاختصاص على ابن الصلاح في قوله: " أول من ألف في الصحيح المجرد البخاري ". وقد تبع الناس في ذلك ابن الصلاح – رحمه الله - كما تبعوه في أشياء أخرى تتعلق بهذا الفن الشريف، قال السيوطي في (ألفية الحديث) له:
وأول الجامع باقتصار ... على الصحيح فقط البخاري
وقال العراقي في (ألفية الحديث) له:
أول من ألف في الصحيح ... محمد وخص بالترجيح
ـ[ابونصرالمازري]ــــــــ[27 - 05 - 08, 08:48 م]ـ
أقول: لقد اعترض على قول ابن الصلاح جماعة منهم السيوطي ومغلطاي.
قال السيوطي –رحمه الله-: " أطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح، واعترضوا على ابن الصلاح في قوله: "أول من صنف في الصحيح المجرد ... " فزاد " المجرد " احترازا عن الموطأ، فإن مالكاً لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات.
وقال الحافظ مغلطاي: " لا فرق بين البخاري والموطأ في ذلك لوجوده في البخاري –أيضا- من التعاليق ونحوها ". تزيين الممالك
وتعقب الحافظُ ابنُ حجر قول مغلطاي ومن نحى نحوه فجعل البخاري والموطأ سواء، ولكن السيوطي تعقب الحافظَ ابنَ حجر، ولم يسلم له ما قال.
قال –رحمه الله-:" قال الحافظ ابن حجر: كتاب مالك، صحيح عنده وعند من يقلده، على ما اقتضاه نظره من صحة الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما .. قلتُ - أي السيوطي-: ما فيه من المراسيل، فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل، فهي -أيضاً- حجة عندنا، لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد، وما من مرسل في الموطأ إلا له عاضد أو عواضد، فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء ".تنوير الحوالك
ولا تغرنك مقالة أبي محمد ابن حزم رحمه الله-وهذا من تحامله على المالكيين وعلى كثير ممن لم يسلم من لسانه- في تأخير رتبة الموطأ، فقد ردها إمام النقاد الذهبي –معتذراً عن أبي محمد- فقال: " ما أنصف ابنُ حزم، بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود والنسائي، لكنه تأدب وقدم المسندات النبوية الصرفة، وإن للموطأ لوقعا في النفوس، ومهابة في القلوب، لا يوازيها شيء ". انظر (سير أعلام النبلاء) 18/ 203. في ترجمة ابن حزم.
ثم ان الحافظ الإمام والعلم الهمام، حافظ الدنيا في زمانه، أبو عمر يوسف بن عبد البر، تصدى لما في الموطأ من المراسيل والبلاغات والمنقطعات فألف في وصل ما انقطع، وإسناد ما أرسل، كتابه العظيم، الموسوم بـ ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد))
وقد جاء في مدح التمهيد وتقديمه رأي ابن حزمقال - ... لم يؤلف في الإسلام مثله فكيف أحسن منه.
قال أبو عمر يوسف بن عبد البر في مقدمته: " ووصلت كل مقطوع جاء متصلاً من رواية غير مالك، ومرسل جاء مسنداً من غير طريقه -رحمة الله عليه- فيما بلغني علمه، وصح بروايتي جمعه، ليرى الناظر في كتابنا هذا، موقع آثار الموطأ من الاشتهار والصحة ". التمهيد
وقال: " وجميع ما فيه من قوله ((بلغني)) ومن قوله ((عن الثقة عنده)) مما لم يسنده، أحد وستون –61 - حديثاً، كلها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعة لا تعرف:
أحدها: (إني لا أنسى ولكن أنسّى لأسن)
الثاني: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أري أعمار الناس قبله – أو ما شاء الله من ذلك - فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر)
الثالث: "قول معاذ: آخر ما أوصاني به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد وضعت رجلي في الغرز أن قال: (حسن خلقك للناس)
الرابع: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة).
وقد نظم العلامة المتفنن المحقق الرهوني هذه الأحاديث فقال:
وكل ما لم يسند الإمام ... في موطأ أسنده الأعلام
إلا أنسّى لأسن ورأى ... عمر من مضى طويلاً قد نأى
مع وصية معاذ وردت ... كذا إذا بحرية تشاءمت
وقد أعيت هذه الأحاديث الأربعة الحافظَ ابن عبد البر، فجاء الحافظ ابن الصلاح وشمر لها عن ساعد جده، فوصلها وألف في ذلك جزءاً لطيفاً، ذكر فيه أسانيد هذه الآثار، قال الشيخ المحدث محمد حبيب الله الشنقيطي:
وقد رأيت بعض متقني السنن ... عزا إلى نجل الصلاح أن وصل
من حاز في كل العلوم خير فن ... أربعة الأخبار فالكل اتصل
ونقل عن الشيخ صالح الفلاني قوله: " وما ذكره العراقي من أن من بلاغاته ما لا يعرف مردود بأن ابن عبد البر ذكر أن جميع بلاغاته ومراسيله ومنقطعاته، كلها موصولة بطرق صحاح، إلا أربعة أحاديث، وقد وصلها ابن الصلاح في تأليف مستقل، وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين الموطأ والبخاري، وصح أن مالكاً أول من صنف في الصحيح، كما ذكره ابن عبد البر، وابن العربي القاضي، والسيوطي، ومغلطاي، وابن ليون، وغيرهم، فافهم. انظر مقدمة الموطأ بقلم محمد فؤاد عبد الباقي ص –ه- نقلا عن (دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك)
وقد طبع جزء ابن الصلاح المشار إليه، بتحقيق المحدث الكبير أبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري –رحمه الله-،غير أني لم أره ولكن قال هذا من اقتناه وهو عنده مطبوع
وعلى كل حال، فان بعض ما تقدم لا ينقص من مرتبة المطأ و لا يحط من قدره، وإلا انطبق ذلك على البخاري أيضاً فإنه لم يسلم - وكذا صحيح مسلم - من انتقاد البعض.
وفقكم الله
¥