تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي يعرفان أن السيطرة الكاملة على هذه الأمة أمر مستحيل فإن لها من مقومات شخصيتها القويةل الصامدة العنيدة، ومن أسس فكرها العربي الإسلامي القرآني ما يحول دونها ودون الاستسلام أو الركوع أو الخضوع لأي قوة خارجية أجنبية، فكان لابد من الحملة على هذه المقومات للقضاء عليها وتحويل وجه الأمة إلى قيم أخرى تدمر كيانها وتفرض عليها التسليم للقوى الخارجية في أن تسود وتمتد وتتوسع، وبذلك يبقى الاستعمار حياً في صورة أخرى من صور النفوذ الفكري.

إذن فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها، والعمل على تحطيم هذه القيم بالتشكيك فيها وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعاً.

ولقد صور لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهلوندى في العالم الإسلامي حين قال: "إن ىالشبان الذين يتلقون علومهم في إنجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين".

وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدارس وجامعات وفي البعثات الموجهة إلى أوربا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات.

وفي هذا، قال جبران إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيراً لفرنسا والشاب الذي لبس قميصاً من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق، بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي لفتح أبوابها لثقافة بلادها. وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة.

وهكذا كان "التغريب" عملاً خطيراً دقيقاً قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد أخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع. وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسومة، وفي الأدب بث فكر جديد قوامه القصص وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا وتصم تاريخنا بالضعف وماضينا بالذلة وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود.

ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذه الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية.

كان هدف التغريب واضحاً هو محاولة قتل شخصيتنا، ومحو مقوماتها وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها.

وفي هذا المجال برزت الدعوة إلى التحرر من طابع العروبة وطابع الدين وجرت الشعارات الجديدة في الارتباط بحضارات البحر الأبيض وبأن مصر جزء من أوربا، وبرزت دعوات الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والأشورية في العراق، وبرزت النعرات القديمة باسم مسيحي ومسلم، وعربي وبربري، وعربي وكردي، وكان الاستعمار هو الذي يحمل لواء هذه الدعوات ويثيرها ويقلب جمرها، ويخرجها من كهوف الماضي ليمنحها الحياة ويجمع حولها بعض أعوانه عن طريق الفكر والكتابة بغية تقسيم الأمة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير