فإن قبل أثينا كانت حضارات النيل والفرات، وقبل النهضة كان المسلمون والعرب في دورهم الضخم البعيد المدى حين حملوا لواء الحضارة والفكر، وترجموا آثار اليونان وزادوا فيها وأضافوا إليها وحققوا الأسس الكبرى التي قامت عليها الحضارة فيما بعد.
والحق أن حركة تغريب الشرق قامت على المغالطة والتضليل، ومحاولة مسخ القيم والقوميات العربية والإسلامية وإدخال قيم ومقومات جديدة تهدم شخصيتنا وتصيرنا مسخاً لا هو من الشرق ولا هو من الغرب ثم هي بعد ذلك تنكر دورنا وتحاول أن تغض من شأن لغتنا وتاريخنا وتراثنا على نحو لا يصمد أمام البحث العلمي الصحيح، وهو ما تكشف بتوسع في مختلف مجالاته وجوانبه.
استهدف التغريب والغزو الثقافي للإسلام والعالم الإسلامي والأمة العربية هدفاً واضحاً مقصوداً لذاته هو الاستسلام للسيطرة الاستعمارية عن طريق تحلل القيم وتحرريف المفاهيم وإفساد الجذور والأسس التي تقوم عليها الذاتية العربية الإسلامية. وبذلك ينصهر المسلمون والعرب في الغرب وحضارته وثقافته انصهار الذليل التابع، الذي يعجب بها ويوليها وتابعها ويتطلع إلى مصادقتها والتبعية لها تبعية كاملة.
ولاشك أن تحقيق هذا الهدف هو أمر بعيد المنال، بالنسبة لأصالة الإسلام وفكره ومقوماته وجذوره العميقة الضاربة في التربة العربية الإسلامية خلال خمسة عشر قرناً كاملة ومع ذلك فقد عمد الاستعمار إلى تنفيذ مخطط ضخم في سبيل التغريب والغزو الثقافي، قام أساساً على موسيات ضخمة تحمل لواء العمل في مجال التبشير والتعليم والصحافة والاستشراق وكلها تناسق بين خططها وأهدافها لتحقيق غاية واحدة، هذه الغاية هي السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي التي عجزت عنها الحروب الصليبية والحيلولة بين الإسلام وأهله وبين القوة والسيطرة والقدرة على الحياة والحركة تخوفاً من خطر مفزع متوهم يتمثل في انقضاض الإسلام على الحضارة الغربية وإسقاطها.
وقد سار الغزو الثقافي متقدماً حملة الغزو العسكري والسياسي ومرافقاً لحملات الغزو التجاري والاقتصادي، عامداً إلى مهاجمة الإسلام واللغة العربية والقرآن والرسول والتاريخ الإسلامي والقيم الأساسية في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية.
كما حرص الاتعمار من ناحية أخرى أن ينقل إلى العالم الإسلامي والأمة العربية الجوانب المضطربة من حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات مكن حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات من التحديات من خلال الفلسفات المتضاربة الإلحادية والإباحية وإذاعتها.
واتصل ذلك بالنظريات ذات المظهر العلمي البراق التي أوجدها الاستعمار ليحاول إقناع الشعوب الملونة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وإن الرجل الأبيض هو الإنسان الذي خصته العناية الإلهية بتحضير الشعوب المتخلفة، وهي نظريات تبين من بعد أنها قد سقطت في بلادها، ولم تجد من يقبلها أو يعتنقها ولكنها نقلت إلى بلادنا لإثارة البلبة والاضطراب ضمن مخطط التغريب المتعدد الأضلاع.
والواقع أن هذه الفلسفات والمذاهب الغربية التي قذف بها الفكر الإسلامي لم تكن قائمة في الغرب على هذا النحو من التعدد في وقت واحد، وإنما جرت خلال فترة طويلة تمتد إلى أكثر من أربعمائة عام منذ عصر النهضة إلى اليوم ولكن التغريب أراد أن يدفع بها مرة واحدة إلى الشرق رغبة في إثارة الاضطرابات والشكوك وزلزلة العقائد ومع ذلك فقد استطاع الفكر الإسلامي وهو في مطالع اليقظة أن يواجه هذا الإعصار في قوة وأن يدحضه ويرده وكاد أن يقضي عليه لولا بقاء النفوذ الأجنبي المؤيد لحركة التغريب المسيطر عن طريق أعوانه وقد تمثلت هذه الحملات في تيارات متعددة أهمها:
1 - إشاعة قضية الأجناس السامية والآرية التي تستهدف الانتقاص من شأن العرب.
2 - مهاجمة لالدين بعامة والإسلام بخاصة واتهامه بأنه سبب التخلف.
3 - انتقاد العرب والمصريين واتهامهم بأنهم ظلوا مستبعدين لليونان والرومان.
4 - إنكار فضل العرب على الحضارة الحديثة.
5 - الحملة على العقائد والقيم.
6 - الدعوة إلى التجزئة والإقليمية وإحياء الدعوات القديمة الفينيقية الفرعونية.
7 - الدعوة إلى ما يسمى ثقافة البحر الأبيض.
8 - إذاعة الفرقة والخصومة بين الأديان والأجناس: البربر والعرب، الدروز والموارنة، المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعية.
¥