فدون التاريخ مآثر وأقوال ثلة كبيرة من الصالحين والمخلصين منهم، فأضحت أقوالهم منارات تنير الطريق، وحكماً تزيد في الإيمان لم يجعلوها في كتب ولا مصنفات، ولا في دواوين ولا مؤلفات، حفظها عنهم التلاميذ والأصحاب فخلدها التاريخ لصدقهم وإخلاصهم، أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والسفيانين وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والنماذج من أقوالهم ومآثرهم التي خُلِّدت كثيرة جداً لا تكاد تحصى، ولكن أشير إلى بعض المواقف التي تدلنا على مدى إخلاصهم في أقوالهم وكتاباتهم، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس يتكلم في تفسير القرآن وبيان معانيه أمام حشد من المتلقين، ولم يدونه في كتاب له، بل لم يكن التأليف عندهم معهوداً، فيقضي الله تعالى أن تدون أقوال هذا الحبر في كتب التفسير ثم تفرد في كتاب مستقل بعد قرون يحمل اسم (تفسير ابن عباس رضي الله عنه).
وموقف آخر يرويه ابن عساكر عن أبي سعيد رضي الله عنه، فقد روى عن عكرمة قال قال لي ابن عباس ولعلي ابنه انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه، فأتيناه وهو في حائط له، فلما رآنا قام إلينا، فقال مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنشأ يحدثنا، فلما رآنا نكتب قال لا تكتبوا واحفظوه كما كنا نحفظ ... ) (14)، ومع هذا النهي منه رضي الله عنه فقد حفظت لنا السنة أحاديثه التي رواها، وتولى الله إبقاءها.
وموقف ثالث من تلميذ نبيه لابن عباس وهو مجاهد كان يقول لأصحابه: ((لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يكتب الحديث، ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غداً)) (15)، ويريد الله تعالى أن يبقي لهذا العالم أقواله وآراءه، مع نهيه عن الكتابة عنه، ولم يؤثر هذا النهي في نقل علمه.
وموقف رابع من أحد أتباع التابعين وهو الإمام مالك فقد أبقى الله لنا موطئه كما علمنا، كما أبقى لنا فقهه وعلمه وأقواله وأجوبته ظاهرة جلية في (المدونة) التي دونها تلاميذه وأشهرهم سحنون، ولم يكتبها في مصنف، وفي آخر جزء من المدونة لسحنون التعليق التالي: (كتبه ناسخ هذا الجزء: سمعت الكتاب, وكتبته بيدي, وسوف تبلى يدي ويبقى الكتاب) أهـ، وسبحان الله بليت اليد، وبقي الكتاب.
هذا الكتاب الذي يبقى لصاحبه ... ذكر يسار به في البدو والحضر
تَعَلَّمَنْ أنَّ الدواةَ والقلَمْ ... تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ
وموقف خامس من الإمام الشافعي تلميذ مالك رواه ابن عساكر في تاريخه عن البويطي قال: قلت للشافعي: إنك تتعبنا في تأليف الكتب وتصنيفها والناس لا يلتفتون إليك ولا إلى تصنيفك! فقال لي: (إن هذا هو الحق والحق لا يضيع) (16).
وقال الشافعي: (ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه) (17).
وقال الربيع: دخلت عليه وهو مريض فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلموا هذه الكتب ولم ينسب إلي منها شيء أبداً) (18)، وقال مرة: (وددت أن كل علم تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني)، وهذه العبارات التي سطرها التاريخ تدلنا على المرتبة التي وصل إليها أولئك الأخفياء من الإخلاص حيث بلغوا منه المراتب العليا، حين تجردوا من حظوظ النفس ومبتغاها، فاستحقوا بعدها من عند الله ثمرة الذكر الحسن، والبقاء لكتبهم وأقوالهم بل ومذاهبهم وسيرهم، وهذه كتب الإمام الشافعي التي دونها بنفسه، أو دونها عنه تلاميذه باقية على مر العصور، وما كتابا الأم والرسالة عنا ببعيدين.
وموقف سادس من الإمام أحمد رحمه الله تلميذ الشافعي فقد كان يرفض مبدأ التصنيف والتأليف في الفقه تقديراً للكتاب والسنة، وكان يعتبر ذلك بدعة، وواضعها مبتدع (19)، ونهى أصحابه عن كتابة فتاويه، ويقول لهم: "خذوا من حيث أخذت"، ولم يؤثر عنه تأليف خاص من قوله إلا رسالة (الصلاة) ألفها لإمام مسجد رأى منه تقصيراً في الصلاة (20)، قال ابن القيم: (ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك)، ولم يكن لنهيه رحمه الله تأثير على حفظ مذهبه وأقواله وأجوبته، فشرع أصحابه بتدوين المسائل التي أفتى بها، فهناك مسائل الإمام أحمد لأبي داود، وأخرى لابن أبي هانئ،
¥