تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأخرى لابنه صالح، وأخرى لابنه عبد الله ... وأخرى، حتى نهيه عن الكتابة عنه حفظوه وبقي، فنفع الله بعلمه -الذي دونه أصحابه- الإسلام والمسلمين، وصارت أقواله مذهباً يذهب إليه طائفة كبيرة من العلماء، أبقاها الله تعالى لنا لإخلاص هذا الرجل وجهاده في ذات الله، وحاله في عجز البيت التالي:

إن تكتبوا نكتب وإن لا تكتبوا ... تأتيكم بمكانكم كتبي

بل لم يكتف التاريخ بتسطير أقواله، ولكن تُوج التاريخ بسيرته العطرة المليئة بالكفاح والجهاد بالحجة والبيان، والمليئة بالابتلاء والامتحان، بل وسطر التاريخ مشهد جنازته العظيمة التي صَدَقَ فيها مقولته الشهيرة، والتي أبقاها الله تعالى لنا على مدار التاريخ كما بقي علمه ومذهبه، وصارت مثلاً للعلماء لا ولن ينسى وهي: (بيننا وبينكم يوم الجنائز) (21)؛ لعلمه أنه على الحق، ولصدقه مع ربه، وثقته به، وإخلاصه له، فحقق الله له مناه، وخلد ذكره، ونصر به السنة، واستحق لقباً لم يسبقه عليه أحد: (إمام أهل السنة)

قال ابن كثير معلقاً على مقولته تلك (وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يتلفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ... ) (22).

يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ ... أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ

إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم ... خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا

ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً ... نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ

وهكذا بقية القرون التالية لم تخل من أولئك العلماء الأخفياء يدل على درجة إخلاصهم، شهرة كتبهم، وكثرة طباعتها، وقبول العالمين لها، أينما تتجه إلى بلد أو مكان تجد الكتاب، فهذا البخاري يصنف صحيحه الذي زاحم موطأ مالك ليبقى ذكره ليس بين العلماء فحسب بل بين العوام والصغار، ولا يزال العلماء من بعده يلهجون باسمه أو صحيحه في كتبهم، ودروسهم، ومحاضراتهم، وخطبهم، واجتماعاتهم، لا يكاد يخلو شيء منها من لفظة: (رواه البخاري في صحيحه، أو أخرجه البخاري، أو صححه البخاري، أو ضعفه البخاري ... )، ولذا لما علم رحمه الله أثر الإخلاص وصلاح النية في بقاء الكتاب وقبوله لدى الناس صدر كتابه بحديث (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... ) فكان هذا الحديث أول حديث في كتابه مع غرابة إسناده كما هو مقرر في علم المصطلح، قال ابن بطال: "قال لي أبو القاسم المهلب بن أبي صفرة: وإنما قدم البخاري، رحمه الله، حديث"الأعمال بالنيات" في أول كتابه، ليعلم أنه قصد في تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخاري في تأليفه" (23).

قلت: ولعل هذا الملحظ انتبه له العالم المحقق أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) فصدر كتابه بهذا الحديث كصنيع البخاري، فانطبع إخلاصه في التأليف على الكتاب حتى رأينا من شأنه عجباً يندر له النظير، ليبقى هذا الكتاب شامخاً بين العلماء والعوام على حد سواء، بل لو قيل إن أشهر كتاب بين العوام اليوم هو رياض الصالحين لم يكن ذلك بعيداً، ولا يكاد يخلو مسجد من المساجد إلا وفيه "رياض الصالحين" تجده شامخاً في أحد الرفوف بجانب القرآن الكريم، وما من إمام مسجد إلا وقرأ على جماعته هذا الكتاب كله أو بعضه، وقد طبع آلاف الطبعات، حتى قيل: (ما من دار نشر إسلامية إلا وطبعت هذا الكتاب).

وتستمر سلسلة عجائب الإخلاص في التأليف والكتابة بعد أولئك الأخفياء ليرينا التاريخ أعاجيب أخرى فجر فيها الإخلاص كل القيود ووسائل الحصار والتضييق على التأليف، فهذا أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله يسجن ويمنع من نشر علمه الغزير بين العالمين، ويمنع عنه في سجنه المداد والكاغد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير