فقام الناطق - رحمه الله وعفا عنه - مخذولا واراد ان يقبل رأس الشيخ,, فقال الشيخ صالح: ليست الحاجة الى ان ترضيني وانما الحاجة الى ان تحافظ على دينك، وان تعلم مواضع الولاء والبراء,, واردت ان اعينك على نفسك فتكفها عما يشينك عند الناس ويؤثر في دينك لانني اعلم ان سواليفك خاملة!
وكان رحمه الله ذا حنكة وسياسة ودهاء,, يداري الناس، ويستألفهم ولكن على قوة في الحق وصدع به.
وهو في ثقله العلمي والعقلي من اواخر جيل عوضنا فيهم عند الله منذ سماحة الشيخ الامام محمد بن ابراهيم,, الى سماحة الشيخ ابن حميد,, الى سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمهم الله,, الى سماحة الشيخ ابن باز كلأه الله بعنايته ولطفه ,, ولو خليت لخربت، فعندنا من امثال هذا الطراز - على قلتهم - كالشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ والشيخ صالح الفوزان والشيخ العباد والدكتور الشيخ بكر ابو زيد، والدكتور الشيخ صالح بن حميد,, ولكن الاعم الاغلب - الا ما رحم ربك -: اما قلة العلم المحقق واما ضعف العقل مع العلم واما قلة الورع واما الداخلة في النية والرغبة في الشعبية والزعامة، واما النزق والطيش، واما التأثر بالدخيل!!.
وكان سماحة الشيخ صالح رحمه الله فقيها حنبليا جلدا ولكنه في السنوات الاخيرة عكف على صحاح الاحاديث وسننها,, وعلى ذلك شواهد منها انني زرته بصحبة الشيخ عبدالعزيز بن سعد الجلعود فاستشكل احدنا الحاح الشباب على قولهم: قدر الله وما شاء فعل بنطق (قدر) اسما لا فعلا فأحضر صحيح مسلم وشرحه بسرعة خاطفة مثبتا رواية (قدّر) بالفعل المضعف.
لقد بصَّر عوام المسلمين في برنامجه (نور على الدرب)، واثرى هيئة التمييز بعلمه وعقله وحنكته بعد نقله من رئاسة محاكم الاحساء وكان الساعد الايمن لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد رحمه الله وكان ركنا في هيئة كبار العلماء.
وقد ألان صلابته في اخريات حياته رقة وورع فلقد صليت جنبه قبيل صلاة العصر ذات مرة وبعد التسليم قبلت رأسه فعرفني قبل ان أنطق - مع طول غيبتي عنه - عرفني من مجرد سماعه لنبراتي في نافلة القراءة والدعاء فيها بسرية!!
لقد اخذني بيده الى البيت، وقال لي اثناء الطريق - ممازحا وجادا - قد قلت لك يا ابن عقيل الله يهديك: انك ضائع، ولو كان الامر لي لحجرت عليك,, انت ضائع في تدبيرك المالي وضائع في علمك لا تحسن سياسته ولا تفرق بين واجباته ونوافله,, انت ضائع في علاقتك بالناس واختيار الصاحب والجليس,, ولكنني اغبطك بواحدة!
قال أبو عبدالرحمن: ففرحت بهذه الواحدة وقلت له: ما هي يا شيخ؟!
فقال: فكك الله من القضاء ولعل الظروف التي حالت دون ذلك لطف من الله بك,, الامر خطير يا ولدي,, والله لوددت لو انني لم اتول القضاء قط!
قال ذلك وهو العالم المؤهل الورع ذو الصلابة في الحق.
اما خطبه يوم الجمعة وتلاوته في الصلاة الجهرية فكان ذلك من نعيم حياتي بشقراء فقد كان بليغ القول حلو النبرة ومليح التلاوة، حسن الهيئة مع قلة التكلف.
وكان رجاعا للحق، واذكر ان الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق ألقى كلمة في نادي شقراء بالمعهد العلمي ختمها بقوله: ان الله على ما يشاء قدير).
فاعترض عليه سماحة الشيخ صالح - وهو الحافظ لكتاب الله,, لا اعلم احدا امكن في تلاوة القرآن منه ومن سماحة الشيخ ابن باز ومن سليمان بن علي رحمهم الله، فصعاب السور اسهل عليهم في الاستحضار من سورة الفاتحة,, يستحضرون عشرات الآيات في موضوع معين من مختلف السور بلا روية ولا تذكر,, فاحتج الدكتور الهدلق (وكان يومها طالبا) بالآيات الكريمة، فسر الشيخ بذلك وشكر له.
قال أبو عبدالرحمن: ولكل من الشيخ والتلميذ وجهة صحيحة ولكن يجمع الوجهتين خصوص وعموم بين الآيتين، فالله سبحانه على كل شيء قدير بلا استثناء ولكنه سبحانه لا يفعل الا بمشيئة مسبقة وعلم مسبق مهيمن وحكمة شاملة ليس في علمه سبحانه عبث ولا مصادفة لشمول علمه وحكمته مع قدرته وهذا معنى انه لا يسأل سبحانه عما يفعل وهم يسألون,, وقدرته سبحانه تنفيذ لمشيئته المسبوقة بعلمه وحكمته، فهو على كل شيء قدير وهو يمضي قدرته اذا شاء سبحانه وتعالى.
قال أبو عبدالرحمن: وفي التباريح كثير من ذكرياتي مع سماحته.
كان رحمه الله قاضيا في حوطة سدير وكان شبه امير لقوته وزعامته وهكذا كان في شقراء وكان يدرسنا الفقه في المعهد وهكذا كان في كل المناصب التي تولاها,, ارادوا في الحوطة قطع الوادي خوفا من الغرق فكان امامهم يخوض الماء رافعا سراج ابو فنر بعصاه,, وهجم الدبى على نخيل شقراء، فتجرد مع الذائدين يحمسهم ويشجعهم,, ومن شدة الحماس قال: للامير عمر بن شعيل رحمهما الله في المسجد: اللي ما يذود الدبى مع الجماعة: الطس بابه، وسنّد فمه! ,, عكس العبارة رحمه الله لشدة حماسه.
كان جبلا من العلم والحكمة القوة,, كان صورة امينة لمدرسة سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم رحمهم الله جميعا، فما احوجنا في هذا التمزق الى امثال هؤلاء؟! رحمهم الله رحمة الابرار وجمعنا بهم في دار كرامته، واعاننا على انفسنا، لنسلك سبيل الهدى,, هكذا اعرفه والله حسيبه ولا ازكي على الله احدا,, وعزائي لنفسي ولابنائه واسرته، ولكافة المسلمين كعزاء الخنساء لعمر بن الخطاب في اخيه زيد رضي الله عنهم، فهو شيبة حمد شب وشاب في الاسلام على العلم والعبادة ونفع المسلمين,, اسبغ الله عليه رضوانه,, والحمد لله على كل حال، و (إنا لله وإنا إليه راجعون).
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
¥