تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يعلمنا الوفاء بالعهد، وكان قد دخل بجوار مطعم بن عدي بعد رجوعه من الطائف بعد أن طردوه وضربه صبيانهم _ فداه أبي وأمي _، وكذلك فإن مطعم استجاب لنداء زهير بن أبي أمية وهشام بن عمرو بن ربيعة فقاموا لنقض الصحيفة الجائرة التي كتبتها قريش متعاقدة على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب وعدم مناكحتهم ومبايعتهم؛ فماذا كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا أنه تذكره بعد موته، وكان قد مات قبل بدر ببضعة أشهر على عمُر يتجاوز التسعين، وذلك حين قتل المسلمون من قتلوا من كفار قريش يوم بدر، وأسَروا منهم من أسروا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النّتنى لتركتهم له) (33)، أي لتركتهم له من غير فداء، جزاءا على نصرته ومواساته ومواقفه ورجولته، وكيف لا وهو خير من أوفى بالعهد، وخير من أدى الأمانة، ولم ينكر المعروف الذي أُسدي إليه؛ قمة في الوفاء، وقمة في العدل، وقمة في القيادة ... يا ليت قوم يعلمون.

بل حتى حسان بن ثابت قال في المطعم بن عدي يَبكيه:

أيا عين فابكي سيدَ القوم واسفحي ... بدمعٍ وإن أنزفته فاسفكي الدَّما

وبكّي عظيم المشعرين كليهما ... على الناس معروفا له ما تكلما

فلو كان مجدٌ يخلد الدهر واحداً ... من الناس، أبقى مجدُه اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبَّى مُهِلٌّ وأحرما

فلو سئلت عنه معدٌ بأسرها ... وقحطانُ أو باقي بقية جُرْهما

لقالوا هو الموفي بخُفرة (34) جاره ... وذمَّتِه يوما إذا ما تذمَّما

فهكذا نتعلم من حبيبنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه الكرام كيف نحسن العهد، ونفي بالوعد، كسلوك ذاتي وخُلق سابغ، وطبيعة راسخة ابتداءا، مما يليق برفعة الإسلام، وعلو أهله، وعزة معتنقيه، ونخوتهم وفوقيتهم بالإيمان بالله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (35) متمسكين بإسلامهم، معتزين به. لين من غير ضعف، وعزة من غير قسوة. قبل أن يكون ذلك من أجل دعوة الغير، أو دفعا لضررهم عن المسلمين.

وعن حذيفة بن اليمان (36) قال ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال فأخذنا كفار قريش قالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نَفِي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم.

كما أنه لا ينبغي التعميم في الأحكام المعلنة عليهم فيما يتعلق بمعاملتهم ولا الخلط فيها، وأن لا تأخذنا العاطفة عن هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنقع فريسة الشيطان ونبتعد عن هدي الرحمن، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عندما خان بنو قينقاع العهد لم يحارب إلا بني قينقاع، فاكتفي بمحاربتهم ولم يتعدَّهم إلى غيرهم من القبائل اليهودية الأخرى، وعندما خان بنو النظير العهد لم يحارب إلا بني النظير ولم يتعدّهم إلى غيرهم، وكذلك مع بني قريظة، إنها قمة في العدالة والرحمة لا تكون إلا من رسول الله ومن استقى علمه منه خلقا وهداية. وصاحب الفطرة السليمة وحده هو الذي يطمئن قلبه بهذا الفهم المبين لمرمى ومغزى هذا الدين!!

يقول ابن قدامة (37): وإن نقضت طائفة من أهل الذمة , جاز غزوهم وقتلهم وإن نقض بعضهم دون بعض اختص حكم النقض بالناقض دون غيره وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم , بدليل أن الإمام تلزمه إجابتهم إليه بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه لمصلحة المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة , ولذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد وسكت بعضهم لم يكن سكوتهم نقضا , وفي عقد الهدنة يكون نقضا.

وقال (38):وإن أنكر من لم ينقض على الناقض بقول أو فعل ظاهر , أو اعتزال أو راسل الإمام - أي إمام المسلمين - بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد , لم ينتقض في حقه ويأمره الإمام بالتميز ليأخذ الناقض وحده.

يتبع بعد رجوعي من السفر إن شاء الله .....


(29) سورة المجادلة 8.
(30) قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها وتسمى أيضا (السطيحة)
(31) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس.
(32) انظر القصة في صحيح البخاري: كتاب التيمم/ باب الصعيد الطيب وَضوء المسلم يكفيه من الماء (فتح الباري 1/ 594,595)
(33) رواه البخاري من طريق الزهري عن جبير بن مطعم عن أبيه مطعم بن عدي، (فتح الباري 8/ 59) كتاب المغازي، باب: من غير ترجمة، قال ابن حجر (فتح الباري8/ 48): وهو فيما يتعلق ببيان من شهد بدرا اهـ لأنها ترجمة الباب الذي قبله. قلت إن الحديث ليس معلقا عن الزهري كما يظهر، بل هو موصول بالإسناد الذي قبله.
(34) الخفرة: العهد
(35) سورة المنافقون 8
(36) رواه مسلم /الوفاء بالعهد
(37) المغني: (8/ 369 - 370)
(38) المغني: (8/ 318)، وذكر نحوه الإمام الكاساني في بدائع الصنائع (9/ 421) ط دار الكتب العلمية، مختصر المزني (8/ 280)
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير