تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لقد كان من نعَم الله السَّابغة على شيخنا أن هيَّأ له في مَطلَع شبابه رجُلاً كريم الخِلال حَميد المناقِب، ذا شخصيَّة فذَّة في العلم والأخلاق، لا تحسَبُه إلا من جيل الصَّحابة الكرام، ممَّن تتلمَذ لسيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم، تأخَّر به الزمان فعاشَ بيننا؛ ليكونَ مثالاً يُقْتَفى، وقُدوَة تتَّبَع، إنه فضيلةُ شيخنا المعَمَّر بقيَّة السلَف الصالح العلاَّمة المربِّي عبدالرَّحمن الباني، حفظه الله تعالى وأمتَع به، وبارك في عُمره = هيَّأه الله ليكونَ ناصحًا أمينًا للشابِّ عبد القادر الأرناؤوط، يأخُذ بيده ويدلُّه على الجادَّة اللاَّحِبَة الآمِنَة، ولقد بَهَرت شخصيةُ الباني فقيدَنا، فأقبل عليه يَنهَلُ من خُلُقه الرَّضِي، ومن علمه النافِع، وما أكثرَ ما سمعتُ - وسمع إخواني - شيخَنا الأرناؤوط يُثني على العلاَّمة الباني، ويُرجع إليه الفضلَ، بعد فضل الله سبحانه، في تَعريفه بمنهَج السلَف الصالح، وبالفكر السلَفي النَّقي، ولنُصْغ إليه يُنْبئنا خبرَه، يقول:

كنتُ في شبابي خطيبًا مِقْوَلاً، أعتَلي المنبَرَ وأخطُب الناس بحماسة واندفاع، يكادُ المسجد يَزَّلزَلُ من قُوَّة خُطبتي وارتفاع صَوتي، وكنت حينَها أرتدي عِمامَةً عاليةً كالأبراج، وجُبَّةً سابغةً أكمامُها كالأخْراج، فكانت نفسي تخدَعُني وتُوَسوسُ إليَّ بأنْ ليس على الأرض مثلي، وحينما أفرُغُ أنزل من على المنبَر وشُعوري كمَن خرجَ من معركة ضارية غالبًا مُنتصرًا، وكان يُقبل إليَّ بعدَ الصلاة رجُلٌ مهذَّب وَديع، يسلِّم عليَّ بابتسامة عَذبة آسِرَة، ويُثني عليَّ وعلى خُطبتي، بعبارات تملأُ نفسي سعادةً وغِبطَة، ثم كان يستأذنُني في إبداء بعض الملاحظات، بأُسلوب في غايَة الرِّقَّة، فكنت أرحِّبُ بملاحظاته، وأفتَح لها قلبي قبل أُذني، فيقولُ لي: يا بُنَيّ، بارك الله فيكَ، وجزاكَ خيرًا، خُطبتُك رائعةٌ ممتازة، ولكنْ ليتَك لم تستَشْهد بالحديث الفُلاني، فإنه موضوع، ولا يَنبغي يا ولدي الاستشهادُ بما لا يَصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وَرَدَ عن رسولنا في مَعناه أحاديثُ صحيحةٌ يحسُن الاستشهادُ بها، منها ... ويذكُر لي بعضَها، وهكذا كان بعدَ كلِّ خُطبة يُسدي إليَّ نصائحَ ذهبيَّة، يَنهاني فيها عن بدعَة كنتُ بها جاهلاً، أو يَلفتُني إلى سُنَّة مَهجورَة كنتُ عنها غافلاً، كلُّ ذلك يقدِّمه بتَواضُع جَم، يُجبرُني معه على الاستِجابَة، عن رضًا وسعادَة، ولساني يَلهَجُ بالدعاء له، والشُّكر لصَنيعه، ولقد كان لي في أُسلوبه الحكيم أُسوةً حسنَة، جزاهُ الله عنِّي خيرَ الجزاء.

قلتُ: ولعلَّ الشيخَ الباني هو الذي دلَّه على كتُب شيخ الإسلام رحمه الله، ورغَّبه فيها، حتَّى استَحكَم حبُّ شيخ الإسلام من قَلبه، وارْتَضى طَريقَته القَويمَة، ومَنهَجه الحقَّ، دينًا يعبُد به ربَّه، ويَزدَلفُ به من رضوانه، وقد دفَعَ ثمنَ حبِّه لشيخ الإسلام - ومطالعة كتُبه وكتُب تلميذه ابن القيِّم- غاليًا، فلم يكُن يَدري يومَذاك أن النظرَ في كتب الشيخَين جَريمةٌ لا يَغفرُها مشايخُ عصره - الذين نَشَؤوا في أعطاف التصَوُّف، ورَضَعوا معَه العصَبيَّة والتقليدَ والجُمود - ولا بدَّ معها من مُحاكمة وعُقوبة، وحقًّا حوكم شيخُنا لقراءته كتابَ ((الوابل الصَّيِّب)) لابن القيِّم، وصَدَرَ الحُكمُ بطَرده من حَلْقَة شيخه الفُرْفور؛ جَزاءً وِفاقًا!! وطُردَ معه الشيخ شُعَيب؛ إذ كان رفيقَه فيها!

ويتلخَّصُ فكرُ شيخنا ومَنهَجُه: باتِّباع سلَف الأمَّة من الصحابة والتابعين والعُلَماء العاملين رضوان الله عليهم، واقتفاءِ خُطاهُم، والنَّسج على نَوْلِهم، في التمسُّك بكتاب الله وسنَّة نبيِّه الصحيحة، والعمَل بمُقتَضاهما.

ومن تَمام نِعَمِ الله عليه أن أُوتيَ فطرةً في طلب العلم سَليمَة، تدعوه إلى البَحث عن الحقِّ، والحِرص على الصَّواب، من غير تَقديسٍ للأشخاص، أو تعَصُّب لرأي إمامٍ أو فَقيه، أيًّا كانت مَنزلَتُه في العلم، أو مكانَتُه في الفَهم، رائدُه في ذلك قولُ الإمام مالك: ((كلٌّ يؤخَذ من قَوله ويُترَك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم)).

شَمائلُه وسَجاياه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير