ومن المواقف الدالَّة على تواضُعه، وبُغضه للشُّهرة والظهور: لما توفي المربِّي الشيخ أحمد الشامي مُفتي الحنابلة بدُوْمَة سنة 1414هـ، تدفَّقَت جُموع المشيِّعين من دمشق ودُوْمَة بالآلاف، وتجمَّعوا عند بيت الشيخ أحمد ينتظرونَ خروجَ الجِنازة، وكنتُ فيمن حضَر فرأيت شيخَنا الأرناؤوط بين الجموع مُتنحيًا جانبًا يذكر الله تعالى، فأقبَلتُ عليه مُسلِّمًا وبقيتُ معه نتبادل بعضَ الأحاديث، وكان أحدُ المشايخ قد تولَّى تنظيمَ الجنازة، فكان يَصيح بالجُموع يدعوهُم إلى التزام السنَّة في الجنازَة إنفاذًا لوصيَّة المُتَوفَّى، ثم طلبَ من العُلَماء والمشايخ التقدُّمَ ليسيروا في مقدمة المشيِّعين، وكرَّر النداءَ مرات، وبدأ المشايخُ يتقدَّمون، وشيخُنا لا يبرَحُ مكانَه، فقلتُ له: ألا تتقدَّم يا شيخَنا إلى الأمام؟! فأجابني: شيخي هو يُنادي أهلَ العلم والمشايخ، وأنا طالبُ علم لا عالم! ثم قال: تعرفُ جامع دُوْمَة الكبير الذي سيُصلَّى فيه على الشيخ؟ فقلتُ له: نعم، فأخذ بيَدي، وقال: هلمَّ بنا إليه قبل أن تَحولَ بيننا وبينه هذه الجُموع، ومَضَينا إليه سالكين بُنيَّات الطريق، مُتَجنِّبين الجُموع الغَفيرَة المتدافعَة.
ومن خِصال شيخنا الحَميدَة عظيمُ وَفائه لأصحاب الأيادي البِيْض عليه، وحتى شَيخُه محمَّد صالح الفُرْفور - الذي طرَدَه من حَلْقَته لقراءته في كتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم - فإنه كان يذكُرُه بالخير دائمًا، ويدعو الله له بالرَّحمة والمغفرَة، بل كثيرًا ما كان يقول: لقد تعلَّمتُ من الشيخ صالح مَخافَةَ الله عزَّ وجَلَّ.
ووَفاءً لذكرى شيخِه ولمعهَده الشرعيِّ الذي أسَّسَه وهو معهَد الفتح الإسلامي: أهدى - قُبَيلَ وفاته - جزءًا من مكتبته العامِرَة الغَنيَّة [17 صُندوقًا] إلى مكتبة المعهَد؛ لتكون وَقفًا على طلاَّب العلم الشَّرعي، وقد خُتمَت الكتُب كلُّها بالعبارَة التالية: (صدَقَةٌ جاريَةٌ لطلاَّب العلم، تقديمُ: عبد القادر الأرناؤوط، رجاءَ دعوةٍ صالحةٍ له ولزوجَته وأولاده).
وَفاتُه وجِنازَتُه:
فجرَ يوم الجمعة، الثالثَ عشرَ من شوَّال، من سنة 1425هـ، (الرابعَ عشرَ بتأريخ المملكة؛ لاختلاف رؤية الهلال)، قَضى الله تعالى قَضاءَه الحقَّ بوَفاة شيخنا أبي محمود، وهو أوفَرُ ما يكون نشاطًا وصحَّة، عن ثمانٍ وسبعينَ سنةً قضاها في مَيادين العلم والتعليم، والنُّصح والتربية، فارسًا من فُرسانها غيرَ مُدافَع.
وقالوا: الإمامُ قَضى نحبَهُ وصَيحةُ مَن قد نعاهُ علَتْ
فقلتُ: فما واحدٌ قد مَضى ولكنَّهُ أمَّةٌ قد خَلَتْ
ولعل من بِشارات الخير لشيخنا أن تكونَ وفاتُه عقبَ عبادات متتالية، فقد اعتمَر الشيخُ في شعبان، ثم صام رمضان، ثم أتبعَه بصوم الستِّ من شوَّال، وكان اليومُ السادس منها هو يومَ الخميس السابقَ ليوم وفاته، وقد أخبرَني أحدُ المقرَّبين منه أنه عندما أفطر مَغرِبَ الخميس قال لأمِّ أولاده: ((الآن عيَّدنا يا أم أحمد))، أو عبارة نحوَها، فكانت وفاتُه فجرَ اليوم التالي، رحمَه الله تعالى رحمةً واسعة.
وفي مَشهَد مَهيب خرج آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والعامَّة تُجلِّلُهم الأحزانُ إلى جامع الشيخ زَيْن العابدين التُّونُسي بحيِّ المَيدان؛ لأداء حقِّ الشيخ الجليل عليهم، وتقدَّم ولدُه الكبير محمود للصَّلاة عليه عَقِبَ صلاة الجُمعة، وكان ألقى خطيبُ الجامع فضيلةُ شيخ قرَّاء الشام محمَّد كريِّم راجِح خُطبَةً مؤثِّرة بكى فيها وأبكى، أشاد فيها بمناقب فَقيد العلم والدعوة، ونوَّه بفقهه وفضله ونُبْل أخلاقه.
ثم وُوريَ الشيخ في مَثواه الأخير من دار الدنيا في مَقبَرة الحَقْلَة بحيِّ الميدان، لتُطوى صفحةٌ جديدَةٌ من صَفَحات العلم والدَّعوة والإرشاد.
رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجعَلَ قبرَه روضَةً من رياض الجنَّة، وأنزله منازلَ الشُّهَداء والصِّدِّيقين، وعَوَّض أمَّتنا خيرًا، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّ لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكلُّ شيء عندَه بأجَل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله العَليِّ العَظيم.
ـ[الباحث]ــــــــ[25 - 01 - 07, 07:30 ص]ـ
جزاك الله خير الجزاء.
ورحم الله الشيخ المحدث عبد القادر الأرناؤوط وأسكنه فسيح جناته.