على الرغم من أن نشأة المكتبات في أوروبا حديثة عهد بالنشأة، إلا أنها تفوقت عنا بكثير، ففي فترة العصور الوسطى كان الغربيون يعيشون في الظلام، ولم يكونوا ليهتموا بالمكتبات اللهم إلا بعض المكتبات الخاصة بالأفراد، والذين كانوا يضطهدون من أجلها إن تجرأ أحدهم على أن يضم إليها ما يمس الكنيسة ورجالها. ولكن وبعد مخالطتهم للمسلمين في عصور تقدمهم أخذوا عادة المكتبات القصورية، وكانت أول مكتبة في أوروبا في فرنسا؛ حيث أقام ملوكها مكتبات في قصورهم على غرار مكتبات الخلفاء المسلمين، وأول مكتبة تؤسس من هذا النوع أسسها شارل الخامس، وفرغ لها جيل ماليه لفهرستها وتنسيقها.
ويقول رنيه دوجرانلونيه - مدير مكتبة الآباء الدومينيكان - إنه وفي فرنسا توجد مكتبات حكومية تحرص كل الحرص على اقتناء كتب العلماء والمفكرين هناك وتدفع فيها الأثمان الباهظة وذلك فور موت الأديب أو العالم أو المفكر، ويذكر مثال للمكتبة الوطنية في فرنسا " BNF" حيث قامت بشراء مكتبة الأديب الفرنسي RAXIME RODINSON وذلك فور موته ودفعت لأسرته مبالغ كبيرة على حد قوله.
ضياع تراث العلماء وضلال الأمة
وهكذا يصنع التقدم فالدول المتقدمة هي وحدها التي تستطيع معرفة قيمة العلم وت وهي وحدها التي تستطيع تقدير العلماء، وكما ورد في التاريخ عن موت مودود بن التونتكين صاحب الموصل حيث إنه وبعد أنم عاد مع طغتكين إلى دمشق، وبينما هو واقف في صحن المسجد فييوم الجمعة وثب عليه باطني فجرحه أربع جراحات وقُتل الباطني، وأبى مودود أن يموتإلا صائماً، وكان عالما خيراً عادلاً كثير الخير يسمع به العرب والعجم. ويقال إن طغتكين هو الذي تآمر عليه، وعندما علم ملك الفرنج بموته كتب إلى طغتكين كتاباً جاء فيه: "إن أمة قتلت عميدهايوم عيدهافي بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها"، وهو ما كان وليست الأندلس الآن منا ببعيد، وعلينا ألا ننسى تاريخنا فيصدق علينا قول الشاعر:
مَثَلُ القوم نَسَوْا تاريخهم كَلَقيطٍ عِيَّ في الناس انتساباً
ونحن الآن نقتل علماءنا ليس في أيام أعيادنا فقط بل وفي كل يوم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أعلمنا: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بموت العلماء، فإذا ماتوا اتخذا الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأجابوا فضلوا وأضلوا!) رواه البخاري ومسلم. وإن كان الموت محتم على كل مخلوق فإنه بذلك لا يبقى لنا من علمائنا إلا ما تركوه لنا من علم، الذي إن لم نحافظ عليه قبضه الله من بيننا، وحينها لن يكون لنا إلا الضلال والإضلال.
خطوة نحو الحل
ومن خلال ما مضى نستطيع القول بأن العبء يقع على كل من تناولناهم، الدول، والأبناء، والهيئات، والمجتمع ككل، بل والعلماء أنفسهم، سواء منهم الميت الذي ترك تراثه دون وصية أو الذين لا يزالون على قيد الحياة، فهؤلاء أيضا عليهم أن يسعوا جادين مجتهدين في سبيل الحفاظ على الأمة من الضلال والضياع، أما عن العلماء أنفسهم فيجب عليهم أن يراعوا الله في تراثهم، وخاصة إذا ظنوا أن أبناءهم لن يقوموا على حمايته، فكما يوصون أبناءهم بالحفاظ على الصلاة ودوام العلاقات بينهم، والحفاظ كل منهم على الآخر وما إلى ذلك، فليوصوهم بتراثهم، ويحملونهم ذلك أمانة في أعناقهم.
أما عن الدول فلا أقل من مكتبة في كل دولة تهتم بتراث أبنائها وتحفظه وتحافظ عليه، مهما كلفها ذلك فإنه، وأن تعامل وزارة الثقافة المكتبات الخاصة كما تعامل وزارة السياحة أو هيئة الآثار أي متحف أثري تعثر عليه أو يعثر عليه أي من أفراد الشعب، ومما لا شك فيه ستكون هي الفائزة فلربما معلومة أو مجموعة من المعلومات تتسبب في الحفاظ على دولة كاملة. فأوربان العالم البيزنطي جاهد محمد الفاتح ليخرجه من سجون الأعداء فكان هو السبب في الانتصار الذي خلد اسم محمد الفاتح حتى الآن " وكل ما كان لديه فكرة".
وذلك كما في فرنسا، والتي من المؤكد أن علمت قيمة هذا التراث ولذلك عملت للحفاظ عليه. وعن الأبناء فعليهم أن يتقوا الله في آبائهم وعلمهم الذي طالما جاهدوا من أجله، وليعتبروا أن المحافظة عليه من باب البر بآبائهم وحفظ جميل تربيتهم لهم. أما عن الهيئات، فعلى كل نقابة من النقابات أو هيئة من الهيئات أن تدرج ضمن جدول أعمالها وفي ميزانيتها جزءًا تخصصه للحفاظ على تراث أبنائها العلمي.
أما عن الهيئات أو المكتبات العامة فعلى القائمين العمل لتلبية طلبات العلماء وأبناء العلماء، سواء بتخصص مكان خاصة أو وضع اسم على هذه المكتبة أو ذاك، وإن كان هذا ما وعد به بعض المدراء.
أما المقصود بالمجتمع ككل أي أن فرد من أفراد المجتمع يجد عنده القدرة على شراء مكتبة كما فعل صديق الدكتور خليل الصابات، فليفعل وليتأكد من أنه بذلك يعمل عملا من أفضل الأعمال الخيرية.
وأما عن الهيئات التي ذكرت أثناء الحديث عن موقف الدول والهيئات فهذه لا تفي إلا بالقيل مما علينا من واجب وإنما أتينا بها كشعاع أمل نسير خلفه، حيث إن هناك العديد من المكتبات لا تزال في حاجة إلى من يرعاها، ويحميها من الضياع؛ حتى نعبر بتراثنا إلى بر الأمان.