إن البحث في المكاسب المالية صعب المرتقى عسير المنال، لأنه يتعلق بالحرام والحلال، وإصدار الأحكام بأحدهما لا يقل أهمية عن الآخر؛ ولهذا كان لا بد من البحث عن الدليل الصحيح والتعليل القوي في الفتاوى الفردية والقرارات الجماعية.
فإن تشعب الموضوع وتعدد مباحثه وطول كل مبحث فيه بحيث يمكن أن يكون كل مبحث بل كل مسألة فيه بحثا مستقلا لأطروحة فضلا عن فصوله وأبوابه، ولكن حب المعرفة وصدق العزيمة شجعاني على خوض غماره وسبر أغواره، وتتبع مراحله وأطواره، ومناقشة آرائه وترجيح أحكامه، مؤمنا بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله، معتبرا أن بحثي هذا هو أرضية قابلة للتعمق فيها والبناء عليها في كل فرع من فروعها، وإلا فموضوع كهذا يضطر الباحث فيه إلى أن يحدد موقفه من قضايا كثيرة اختلف فيها العلماء واضطربت فيها الآراء وتعددت فيها الاتجاهات، مما يجعل ترجيح رأي على آخر يحتاج إلى طول بحث ومراجعة وصبر وأناة، وتجرد من كل عاطفة مذهبية، والرغبة في الوصول إلى الحكم الصحيح مراعيا المقاصد الشرعية، كل هذا يجعل البحث صعبا، وإضافة إلى المشجعات السابقة كان تبشير الرسول? بالأجر على كل حال كان هو الحافز الأول.
انطباعات حول الموضوع:
لقد استفدت من بحثي هذا فائدة عظيمة على المستوى العلمي والتنظيمي، فعلى المستوى العلمي أكسبني ثقافة إسلامية وشرعية خاصة في مجال المعاملات، وعرفني على كثير من الأحكام الشرعية التي كنت أجهلها بل كنت أرى عكس الحكم هو الصحيح كما هو الحال في مشروعية بيع التقسيط، فكنت أعتقد أن هذا التعامل حرام وأنه نوع من الربا لما فيه من الزيادة مقابل الأجل، حتى عرفت من خلال البحث أن الزيادة المحرمة تكون في الأشياء المتحدة النوع، وهكذا في كثير من الأحكام.
وإن كانت هذه فوائد كل بحث وهي الإضافة العلمية الجديدة لكن أقول هذا شعوري. وأجابني عن كثير من الأسئلة ومنحني لذة البحث ومتعته، لا سيما أني أجد نفسي أمام دراسة مشاكل واقعية تتوارد الاستفسارات عنها إلى العلماء والمراكز العلمية من كل مكان، وكم أكون سعيدا عندما أجد الحكم قد بث فيه من أحد الفقهاء أو المجامع الفقهية، ولا يهمني كون هذه الأحكام موافقة لرأيي بقدر ما يهمني وجودها، لأني أومن أن المسلم مع الدليل والحق، وأنه يجب أن يخضع نفسه للشريعة ولا يخضع الشريعة لنفسه.
أما على المستوى التنظيمي فقد عرفت كيف أصل إلى الحكم بواسطة الدليل المقبول، وأرجح ما يرشدني إليه الدليل والتعليل، وأعطاني فرصة للتعرف على ثروة فقهية عظيمة، وأكسبني القدرة على الترجيح والمقارنة والبحث عن التوفيق والتوثيق.
أما على المستوى النفسي فقد وجدت فيه طراوة جعلتني أرغب في العودة إليه كلما ابتعدت عنه، فملأ علي فراغي وآنسني في وحدتي، وكان بمثابة الرفيق الملازم والصديق المتفاهم، فوجدت فيه ضالتي التي كنت أنشدها وواقعي الذي أعيشه، فلا أبتعد عنه حتى يعاودني الحنين إلى مجالسته، ولا أجد راحتي إلا بصحبته، فعشت معه سنوات كلها ذكريات.
والخلاصة إن البحث أعطاني إطلالة على الفقه الإسلامي، لأن إصدار الحكم يقتضي معرفة الدليل المعتمد من المصادر الشرعية الأصلية والتبعية والقواعد الفقهية، وهذا فيه دراسة شاملة لكل المواد الشرعية. وموضوع كهذا يحتاج إلى معرفة الآراء الفقهية القديمة والحديثة وكيفية توظيف النصوص واستنباط الأحكام.
الغاية من الموضوع
قصدي من البحث هو بيان الحكم الشرعي في المكاسب المالية والجواب عن الأسئلة، وتوضيح الحلال من الحرام في المعاملات.
وقد يقال: الحلال بيّن والحرام بيّن، فما هو الجديد الذي أريد تحقيقه؟
أقول: إن بين الحلال والحرام معاملات مشتبهة، وهذا التشابه إن كان واردا في حق العلماء المجتهدين، فما بالك بغيرهم من عامة الناس.
ولهذا يمكن تلخيص الغاية في خمسة عناصر:
1 - إشباع نهم روحي يتجلى في البحث عن أحكام الشريعة ومواقفها، والتعمق في دراستها والإجابة عن أسئلة داخلية تختلج النفس في كل وقت، نظرا لاتصالها بالحياة اليومية، ولأنها تمس جانبا مهما في الحياة المالية، والمسلم بطبيعته يسعى إلى أن يكون مكسبه حلالا ونفسه مطمئنة وعلاقته بربه صافية.
2 - إجابة عن أسئلة مطروحة من طرف الآخرين ينتظرون الرد عن استفساراتهم، وحكم تصرفاتهم وأرباحهم المادية.
¥