وها أنت طف شرق الوجود وغربه فلا تلق لي مثلا ولا تلق لي شكلا
((وأما هديه في عباداته وغالب عاداته؛ فهو الهدي النبوي، سيما الصلاة؛ فلا تشتهي أن تصلي خلف أحد دونه، يهولك نطقه بالتكبير حتى يصغر كل شيء بين عينيك، يقيمها ويحسنها على الوجه التام، الذي وردت به الأحاديث الصحاح والحسان عن معلم الشريعة صلى الله عليه وسلم، واختاره فحول المذهب وفطاحله النقاد)).
ومذهبي كل ما صح الحديث به ولا أبالي بقال فيه أوزاري ()
((وكانت العلوم كلها طوع يده، ما بين معقولها ومنقولها، ولكن الذي غلب عليه منها: الحديث والتفسير، والتصوف والكلام، والأصول والبيان، ويعرف أبواب العبادات في الفقه معرفة كبرى، وما كان الناس يظنون أنه يعرف أبواب المعاملات، فلما حضر مجلس الشورى بالقرويين مع صدور المفتين؛ ظهر فيها أنه البحر المتلاطم الأمواج)).
حبر ثبت والإنصاف شيمته أكرم به طاب من خَلق ومن خُلق
أتى به الدهر فردا لا نظير له مثل البخاري لما جاء بالعتق
((وكان مع جلالته وكمال هيبته يضحك مع الناس، ويتنازل للعبد والأمة وأرباب الحرف الممتهنة. دخل يزور أرباب السجون غير مرة، وكان يذهب حافيا في بعض الأحيان لعيادة مريض ونحوه، وربما خرج مكشوف الرأس بلا كساء، يركب الحمار والخيل المسومة، والدواب الفارهة، يبيت طاويا في بعض الأحيان، ويمد على بساطه ما لا قبل لأحد به. أحيانا يلبس ما وجد، وفي كثير من أحيانه يلبس الثياب المرقعة مباشرة للحمه، ويتجمل ظاهرا كما كانت عادة بعض أسلافه سلسلة الذهب)).
ما الزهد في الدنيا فلا تجهلوا بلبس أسمال وأخلاق
لكنه لبس ثياب التقى مع حسن آداب وأخلاق
((لا يشتري الخضر والفواكه لأهله ونفسه، إلا إذا أكلها القوي والضعيف، يراعي في أكله وشربه القواعد الصحية غالبا، وكانت "تذكرة الأنطاكي" () لا تفارقه إلا قليلا، تجد عنده تدقيقات في الطب تبهر الأطباء، ما أكل وحده إلا قليلا، وما كانت الدنيا عنده تساوي شيئا، لو أعطاك منها ما يكفيك ما رأى ذلك شيئا)).
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله ()
تعود بسط الكف حتى لو أنه دعاها لقبض؛ لم تجبه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه لجاد بها، فليتق الله سائله
((دخل بيده من الدنيا ما لم يدخل على أحد من معاصريه، وما خلف مقدار شبر من الأرض على ملكه، له همة ارتقت على السماكين، وفاق بها جميع من عاصره، حتى رأيت بخط الشيخ الوالد رسالة خاطب بها المترجم لما كان بمراكش يقول فيها: "وأحمد الله كثيرا على ما خُصصتم به عن أهل وقتكم، ومُيزتم به من جميع طبقات أهل عصركم ووقتكم، من عالم ومنسوب وصالح .. وغيرهم؛ وهو: رفع الهمة عن أهل الدنيا، والزهد فيما في أيديهم، ولا كرامة تماثلها، ولا فخر يضاهيها")).
((بل همته الكبرى في ترقي الإسلام وإصلاحه مما أحاط به، يهتم كثيرا بحالة المغرب وجهله وتأخره، ولا حديث له إلا في ذلك، حتى ربما ينسبه جليسه إلى الجنون، لأنه يراه يصف داء لا يتصور جليسه وجوده؛ كطبيب يحذر مريضا بظهور بدايات السل فيه، حتى قال له مرة بعض الفقهاء: "ما جلسنا معك إلا قمنا على غير انشراح، كأن العدو بباب فاس! ")).
((يهتم كثيرا بمحادثات أوربا واتفاقاتها ومقاصدها نحو الإسلام، يتكدر لتفرقات تركيا وكثرة الأحزاب بها، وبجهل أمم المغرب الفظيع أكثر أكثر، لا يبالي في هذا الباب ولا يخاف على نفسه، ويلقي نفسه في المهالك، وكان يرى أن موته أفضل من حياته؛ لأنه لا يحب أن يشاهد المغرب على حالته من الجهل والغباوة والاستبداد والتأخر، يحض على اجتماع طرق أهل الله كلها، ولا يحب لهم التفرق والعداوة)).
((كم سعى في تعليم أمم البربر وهدايتهم، وكان يوفد إلى كل جهة وفدا لتعليمهم الدين وآدابه، فكم من قبيلة كانت لا تحسن النطق بكلمة الشهادة، صارت له فيها زوايا يقرؤون القرآن ويحفظون أوراد الطريقة، بحيث رأيت بعيني في قبيلة زيان البربرية من لا يحسن من العربية إلا أوراد الكتانيين. وكم أمن من طرق، وأصلح بين فئتين وآخى بين أمتين، ورد المنهوبات والمسلوبات إلى أهلها)).
¥