كانت يد الخيانة اليهودية تمارس الخطط، وتدبر الاغتيالات منذ حل رسول الله ? بالمدينة، بل ربما من قبل ذلك، إلا أنها اليوم بدأت تأخذ طابع اليهودية – تخطيطا وتنفيذا – منذ أحسوا (بالزحف المحمدي) علي ديارهم في بني قينقاع. وليس بعجيب أن تقوم بتدبير هذه الخيانة – من أولها إلى آخرها – امرأة؛ أليست امرأه هي التي دبرت اغتيال نبي الله يحيى زكريا عليهما السلام – كما هو في كتبهم وروته رواتهم؟ ثم هذه امرأه ذات مكانة اجتماعية رفيعة في قومها، فهي زوج سلام بن مشكم قائد اليهود وحامل رايتهم، ولعله حكيمهم أيضا، وهي ابنة أخي مرحب – كما قال الزهري – ومرحب هو فارس اليهود الذي كتب على سيفه:
هذا سيف مرحب من يذقه يعطب
وكلا هذين الرجلين لقى حتفه على يد المسلمين في وقعة (خيبر)، فاجتمع لدي هذه المرأة ثلاث:
• الحقد اليهودي المتوارث على أنبياء الله عامة.
• ومتانة الانتماء الاجتماعي والعقدي للملة العوجاء.
• ثم الحنق والألم الممض لمصارع عشيرتها في خيبر، خصوصا زوجها وعمها.
أخبرني هذا العظم بيدي:
بدأت خطة الاغتيال على طريقة المرأة اليهودية – التي يحفظ التاريخ القديم والحديث كم استخدمت في وسائل الجاسوسية واللصوصية – بالتجسس والجس عن أي شئ يحبه محمد ? يكون أسرع إليه فتكا، وما أفضل الوسائل لإيصال هذا الحتف إليه؟ وكانت نتائج هذا التحسس متمثلة في:
1 - أن أفضل الوسائل لدس الهلاك إلى رسول الله ? هو الطعام، لفشل المحاولات السابقة في قتله عن طريق السيف أو ما يشبهه من وسائل الهجوم، ولعدم وجود من يجرؤ على فعل ذلك من اليهود المعروفين بالجبن، فالطعام المسموم هو أيسر الطرق وآمنها على يهود كما أنه الطريق المناسب للمرآة غير المستغرب منها.
2 - أن هذا الطعام ينبغى أن يكون من أحسن ما يقدم له، ومما يفضله في طعامه، ومن ثمة سألت اليهودية صفية زوج رسول ? عن أحب أجزاء الشاة إليه فقالت: الذراع. فأكثرت السم في الذراع، ثم سمت سائر الشاة.
3 - أن هذا الطعام ينبغي أن يقدم على أنه هدية – لا صدقة – ويدل لفظ البيهقي على هذا المعنى، ففيه أن النبي ? سألها حين قدمت الشاة له: ما هذا؟ قالت: هدية قال عبد الرحمن بن كعب – رواي الحديث: " وخشيت أن تقول: صدقة. فلا يأكل ".
إلا أن ما أسلفناه من (الحماية المناعية) كان أسبق من هذه الجهود المضنية التي بذلتها اليهودية، ولا شك أن قومها قد أعانوها على استيفاء هذه المعلومات ووضعها بين يديها – كما أثبت التحقيق الذي أجراه النبي ? - فيما رواه البخاري في المغازي والإمام أحمد في مسنده. كانت (الحماية المناعية) أسبق من الجهد المداهم، وهذا أمر لا يستريب فيه أحد:
(قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) [يونس / 21]
(وَلاَ يحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) [الأنفال / 59]
فما إن امتدت يد النبي ? إلى الشاة ونهس من الذراع نهسة حتى وضعها قائلا: " إن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة "
وبدأ التحقيق – الذي نتجاوز عن ذكر تفاصيله هنا على الرغم من أهميته لمكان الإيجاز – وتوصل النبي إلى المرأة التي وضعت السم في الشاة، وأتى بها، فسألها: هل سممت الشاة؟ قالت: ومن أخبرك؟ قال: أخبرني هذا العظم الذي بيدي. قالت: نعم.
ومن خلال النظر الدقيق في التحقيق المشار إليه آنفا، ثم في مواجهة المجرمة بجريمتها، يمكن أن نخلص إلى جملة من الاستنباطات نختم بها حديثنا، منها:
1 - الحنكة النبوية في إدارة التحقيق، فهو يفجأ اليهود بسؤالهم: " من أبوكم؟ " فيجيبون: أبونا فلان. فيقول لهم: كذبتم، ولكن أبوكم فلان. فيقولون: صدقت وبررت. ثم يدلف إلى سؤال آخر وبعده يواجههم بالتهمة. وفي هذا نوع من إفراغ ما يمكن أن يكون في نفس القوم من مخادعة النبي صلوات الله عليه أو الكذب عليه، والسيطرة النفسية على جو التحقيق لتوجيه دفته إلى الحق.
¥