تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما أخوك فكان يمدّ ببصره كما يمدون، ويحلق بخياله كما يحلقون، ولكنه لم يكن يرى إلا عيوناً أطفأها الدمع، ووجوهاً أذواها الأسى.

وآب الغيّاب إلى أهليهم، وآب أخوك إلى أهله … وفي أول الطريق المؤدي إلى بيتك لقيني طفلك الأكبر، بوجهه المشرق الأزهر، يلعب ويثب مع أطفال الشارع، قال ـ وقد فوجئ بلقيانا ـ: جيتم؟! حتى إذا زالت عنه دهشة الفجاءة عاد يقول: عمي، أبي قد مات، قالها ببراءة وطلاقة ودون مبالاة، وهو لا يدري أي سهم رمى، ولا أي قلب أصمى، وابتدر الدمع إلى عينيّ، ولكنني حبسته بعد غلاب، ومشينا في الطريق إلى البيت، أحمل حقيبة كبيرة في يدي، وطفلك هذا يقفز ويثب من حولي فرحاً مسروراً، يحاول بين الفينة والفينة حمل الحقيبة التي كانت أثقل منه، ووصلنا إلى باب الدار، وعلى عتبة بابها الخارجي كانت أروى ذات العامين تجلس، لقد تركناها حين سفرنا دون فطام، فلم تعرفنا حين العودة، ولم تبد لاستقبالنا أي حراك، لم أقف عندها غير قليل، ثم تجاوزت العتبة إلى من هم وراء العتبات والأبواب ينتظرون، وجدت الوالدة في إحدى زوايا الغرفة تبكي، ومن خلفها زوجك تباكيها، وابنك الأصغر الرضيع مستلقياً على ظهره يحرك يديه ورجليه في خفة ونشاط، دون أن يدري شيئاً مما حوله، كان سلامنا عبرات مهراقة، وقصصاً كثيرة تروي عن مصرعك وجنازتك ودفنك.

وذهبت مع شقيقنا الأكبر، حتى إذا انتهينا إلى المقبرة سلمنا على أصحابها، وأخذنا نجوس خلالها إلى أن قال لي: ههنا … فوقفت وسلمت، ونظرت فإذا حفرة كاد يعيفها الريح والمطر لولا حجارة صغيرة طوقتها من كل جانب. يا للموت!! لقد اتسعت هذه الحفرة الصغيرة لقامتك الفارغة، ولآمالك المضيعة، ولهمومك الكثيرة، ولِمَ لا تتسع؟! فالأموات في بطن الأرض ليسوا في حاجة إلى غرف استقبال يتباهون بما فيها من سجاد وكنب وزينة وتحف، وليسوا في حاجة إلى غرف نوم يستريحون فيها وينعمون ويحملون ويكسلون، وما بهم من حاجة إلى غرف للطعام يأكلون فيها أكثر مما ينبغي لهم، ليسوا في حاجة إلى هذا كله، ولا إلى ما يتصل به، ولا إلى ما هو أدنى من ذلك ولا أكثر، لقد ضل عنهم ما كانوا على ظهر الأرض يفعلون.

أما أمك فقد ظلت بقية عمرها مكلومة الفؤاد، لا تكاد ترقأ لها دمعة، أو تخمد لها لوعة، حتى لحقت بك.

يا للأمهات ويا لقلوب الأمهات!! يظللن وفيَّات طول العمر، وعلى نوائب الدهر.

أما زوجك فقد حزنت ما حزنت، حتى إذا عرض لها الزوج الذي ترتضيه تركت بقايا حزن كانت لا تزال عالقة بأذيال ثوبها، وألقت بأولادك الثلاثة إليّ، كما يلقي المسافر بمتاع أثقل عاتقيه، وحنى قائم صلبه، وأقبلت على حياتها الجديدة كما يقبل عباد الله الذين تصيبهم الجراحات حيناً من الدهر، ثم تندمل على كر الغدايا ومرّ العشايا.

لست أدري أكنت في حياتك الدنيا تذهب مذهب القائل:

أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت

فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

أم كنت ترى هذا القائل أنانيّاً غيوراً ظلوماً؟

وأياً ما كان رأيك وهواك، فقد سلكت زوجك الطريق الذي كنت أنت سالكه، لو ماتت هي وبقيت أنت حياً في شرخ الشباب ونضارة الصبا، فلا تثريب عليها فيما فعلت ولا عتاب، والنساء اللائي يصبرن على مكاره العيش ولأواء الحياة، وينشرن أجنحة الرحمة على أطفالهن مؤثرات نعيمهم وراحتهم على راحتهن ونعيمهن، أولئك نسوة قلائل، وقلائل جداً.

وقد تسالني في لهفة وحسرة، وخوف وإشفاق، وماذا صنعت أنت بأطفالي؟! أطفالي الذين كانوا همي وتفكيري وأنا أودِّع هذا العالم، وأكابد غصص الموت، أطفالي الذين طالما وضعت الخطط لمستقبلهم، وبنيت الآمال الكبار على شبابهم، أطفالي الذين تركتهم كزغب القطا ثم لا ماء ولا شجر، أطفالي …؟!

ما صنعت بهم إلاّ خيراً، وسوف أقص عليك نبأهم بعد حين.

دعني الآن أصلي وأسلم على رسول الله وأقول له: صلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله، ما أكثر ما سمعت قولك: " أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة " وتشير بإصبعك السبابة والوسطى.

ما أكثر ما سمعت هذا القول، ولكن أذني وحدها التي تسمع، ثم لا يلبث تسمعه أن يطويه النسيان.

أما اليوم فإني لأسمعه بحواسي الخمس، وأذكره ليل نهار، صباح مساء، وأدركه عن بلاء وعناء وتجربة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير