تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عانيت يا رسول الله تلك الكفالة التي ذكرت، وتذوقت طعامها الحلو المر، وسمعت نداءها الصاخّ والهامس، ولمست ما خشن منها وما لان، وملأ أنفي منها عطر ودخان، ورأت عيناي لها كثيراً من الصور، فعرفت لماذا أجزلت لها في العطاء، وأعليت شأنها ذلك الإعلاء، وأدركت أن ما قلته لم يكن من بابة الترغيب المحض والإغراء، ولا إسرافاً في الثواب والجزاء، وإنما كان منطق الحق والصدق والهدى والتجربة.

أما الآن فأعود إليك أيها الأخ الكريم الراحل، أعود إليك لأحدثك حديث أبنائك الذين تركتهم صغاراً، وأصبحوا اليوم كباراً، …

وإني لأخالك لهفان عجلان إلى أخبار ابنك الكبير … فقد تركته وعلى محياه مخايل الذكاء، وفي عينيه بريق الألمعية.

قصته قصة لم تنته بعد، ولقد بدأ بداية طيبة مرتجاة، حتى إذا هبت عليه عواصف المراهقة، واستبدت به عواطف الشباب، وفقد القدوة الصالحة في المدرسة وفي الشارع، وبعدت عنه أعين الرقباء ـ أخذت ساقاه تضطربان من تحته، وعيناه يغشاهما الضباب؛ وإنه ليخيل إليّ أنك من هول الصدمة تتميز من غيظ، وتصرخ من حسرة، وتسأل من عجب: وأين غاب النصح والإرشاد وإصلاح الفساد؟!

لم يعد للبيت سلطان على شباب هذا الجيل، وما يصلحه البيت ـ إن كان هناك إصلاح ـ تفسده المدرسة حيناً، ويفسده الشارع حيناً آخر، وفي كثير من الأحيان تفسده صحف ومجلات وقصص ووسائل إعلام أخرى.

لقد أصبح عطاء كثير من المدرسة والجامعات عطاء معلومات وحشو معارف، وأصبح همُّ الطلاب نجاحاً في امتحانات وحمل شهادات، لقد فقد الطلاب في مدارسهم هذه وفي جامعاتهم تلك، فقدوا القدوة الصالحة والمثال العالي، فقدوا ما يثبت الإيمان في القلب، وما يغرس الفضيلة في النفس، وإذا ما قلت لك لقد وجدوا فيها ما يزعزع الإيمان في الأفئدة، وما يقتل الفضائل في الأنفس، فما جانبت حقاً ولا قلت زوراً.

إن كثيراً من المدرسين ذووا مؤهلات علمية جيدة، ولكنهم ـ وا أسفاه ـ ليس لهم نور يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم يراه الطلاب فيسيرون على هديه.

لقد أصبحت العلاقة بين المدرسة وتلاميذها علاقة بائع ومشتر، أما ما كان بينهما منذ أزمان من أسباب المودة والعطف والحنان، والإخلاص والنصح، فما أظنه إلاّ راقداً في رمس من هذه الرموس التي من حولك.

لا أريد أن أشرح لك الأسباب، وأبيِّن لك العلل، فذلك شأن من شؤون هذه الدنيا، وأولئك الذين هم يعيشون في الدار الآخرة لا يعنيهم هذا، ولا ينبغي لهم.

لن أطيل عليك، فابنك هذا قد أخذ شهادته الجامعية بجدارة، وشرع يزاول عملاً يطعمه الخبز المأدوم، ويسقيه الماء القراح، وهو إلى جانب ذلك يقول الشعر، ويكتب الأدب، ويحب القراءة، على أني لا أدري أيظل في ضلاله القديم، أم يتخذ له طريقاً في الحياة رشداً.

وأما ابنتك الصغيرة التي تركتها ذات عامين، فلم تأخذ من التعليم إلاّ حظاً قليلاً، ولا أدري أكان في ذلك الخير لها أم الشر، ومهما يكن من أمر فأولو البنات هذه الأيام يصطفون لبناتهم من الأزواج من كان ذا مال وعقار، أو كان من الموظفين الكبار، ثم من كان ذا حسب ونسب، وقد يعبئون بذي الدين، وكثيراً ما يكون عيب الخاطب أنه ذو دين، وقد تعجب وتسأل، فيقول قائلهم أريد أن أؤمن حياتها، وأن أطمئن إلى راحتها، وليس أفضل في هذا المجال من ذي مال.

أما أنا فقد ذقت طرفاً من الفقر، وشيئاً من الغنى، فما وجدت الراحة هناك، وما وجدتها هنا، وجدتها طمأنينة نفس وعلاقة بالله صامتة، ليست بذات نفاق وضجيج وتجارة، فآثرت أن تنتقل ابنتك إلى بيت فيه صلاة وصيام، فيه خشية من الله وابتغاء مرضاته، ففي مثل هذه البيوت تكون الراحة، وفي مثل هذه البيوت يكون الأمان والاطمئنان.

أما ولدك الثالث الذي تركته رضيعاً لم يبلغ الفطام، فورقة صفراء من أوراق الخريف، ما هو بالعليل الذي تغشاه صفرة الموت، ولا بالهزيل الذي عضه الجوع وأذواه، لا، فجسمه يفيض نشاطاً وحياة وصبا، ولكنه في روحه ونفسه كسائر أبناء جيله وجنسه، خواء وخلاء، ضياع وقلق، وهيام في كل واد، يسيرون على كل طريق، ولكنهم لا يعرفون بيوت الله إلا قليلاً، ويتعلمون الدين، ولكنهم يسقون كما يسقى المريض دواءه المر، ويصغون إلى نداء الناصح الشفيق كأنما هم في حلم.

لا أريد أن أظلمه حقاً، أو أنقصه قدراً، فلقلبه الغافل بعض الأحايين صحو أرجو الله أن يطول، ولسمائه الغائمة بعض الأماسيّ وميض رغبة أسال الله أن يضطرم.

على أنه مما يعزيك ويعزيني أنه ليس من أؤلئك الشبان الذين اتخذوا لهم في اللباس والمظهر صبغاً جديداً، وزيّاً شروداً، فربّوا أظافيرهم كحوافر الخيل، وأطلقوا شعورهم منفوشة كأصواف الخراف، وزينوا معاصمهم بالأساور، وعلقوا القلائد في الأعناق، ولبسوا البناطيل ضيقة الأعالي واسعة الأسافل، وهبطوا بالأحزمة العريضة على الأعجاز، ثم لا شيء وراء ذلك يثقل في الميزان من عمل صالح، أو علم نافع، أو اعتناق لدين، أو احترام لعرف، أو اعتراف بفضيلة.

لا تحزن أيها الأخ الراحل أن تموت شاباً، وأن يجيئك الموت مرة واحدة، فالذين عاشوا من بعدك، على الرغم من طول أعمارهم، يموتون في كل يوم مرة أو مرتين.))

وهذا هو رابط ما سبق ..

http://www.yah27.com/vb/showthread.php?p=50582#post50582

ووجدت هذا الرابط ايضا وهو لفهرس منتدى البحوث تجد فيه إن شاء الله العديد من الكتب المفيدة لتحميلها مجانا نفعني الله وإياكم بها ..

http://www.yah27.com/vb/showthread.php?t=9307

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير