فدفع المتلمس كتابه إلى غلام من غلمان الحيرة يحسن القراءة، فإذا به أمر بقتله، فألقى الكتاب في نهر الحيرة ونجا بنفسه لاجئاً إلى ملوك الشام، ونصح طرفة أن يصنع صنيعه، ولكن طرفة المغرور بمنزلته والمعتز بمنعة قومه لم يصخ لنصيحته وقال لخاله: إن كان اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. وهنا تختلف الروايات في مقتلة، فتذكر إحداها أن طرفة مضى إلى عامل البحرين بهجر وأعطاه كتاب ابن هند، وكان العامل من ذوي قرباه، فنصح لطرفة بأن ينجو بنفسه من ليلته هذه قبل أن يدركه الصبح، فأبى طرفة وأساء الظن بقريبه، واتهمه بأن يرغب في حرمانه من الجائزة. فسجنه العامل، وبعث إلى ابن هند طالباً إعفاءه من عمله لأنه لا يرغب في قتل طرفة، فأقاله ابن هند واستعمل مكانه رجلاً من تغلب، فدعا بكر بن وائل، قوم طرفة، وقرأ عليهم كتاب ابن هند، فهموا بقتل العامل، وعاجلهم التغلبي فأمر بقتل رجلاً من عبد القيس بقتل طرفة، ففعل. ثم طالب معبد أخو طرفة بديته، فأعطيت له من بني عبد القيس. وتذكر الرواية أن قبره معروف بهجر.
وتذهب الرواية الأخرى إلى أن عمرو بن هند بعث بطرفة والمتلمس إلى عامل البحرين الربيع بن حوثرة، فأخذه الربيع فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فمات. وفي اسم قاتله خلاف بين الروايات. وقد قالت الخرنق، أخت طرفة، وكانت شاعرة مجيدة، أبياتاً في رثاء أخيها طرفة منها قولها:
عددنا له ستا وعشرين حجة
فلما توفَاها استوى سيّداً ضخماً
فُجعنا به، لما رجونا إيابه
على خير حال لا وليداً ولا قَحْما ([2])
ـ 2 ـ
عبد بني الحَسْحاس
أحد الشعراء المخضرمين بين الجاهلية والإسلام، واسمه سُحيم، وكان عبداً أسود نوبياً أعجمياً، اشتراه بنو الحساس، وهم بطن من قبيلة بني أسد، وكان ينطق العربيّة بلكنة نوبية، ولكنه أوتي ملكة الشعر، فكان إذا أنشد يبدي إعجابه بشعره فيقول: أهشنت والله، مكان: أحسنت.
يقال إنه أدرك النبي عليه الصلاة والسلام وإنه تمثل بشطر من شعره ولكنه قدّم وأخر في الكلمات وأنقص من لفظه فاختل الوزن قال عليه الصلاة والسلام:
كفى بالإسلام والشيب ناهياً
فقال له أبو بكر: يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً.
ولما لم يستقم للرسول e روايته على وجهه قال له أبو بكر: أشهد أنك رسول الله) وما علمناه الشعر وما ينبغي له ([سورة يس الآية 69].
وكان سُحيم يدفع عن نفسه معرّة السواد بما يتحلى به من حميد الخصال نحو قوله:
إن كنت عبداً فنفسي حرّة كرماً
أو أسود اللون إني أبيضُ الخُلق
وكان، على سواد لونه وضعة أصله، يتغزل بالنساء الحرائر ويهجو الأشراف، وقد تنبأ عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، بقتله حين سمعه، مرّة ينشد متغزلاً:
توَسّدني كفّاً وتثني بمعصم
عليّ وتحوي رِجلها من ورائيا
فقال له عمر: ويلك، إنك مقتول.
وقد اجترأ سحيم على التشبيب بنساء مواليه وقال أبياتاً يشبب فيها بأخت مولاه، وكانت عليلة، وأولها:
ماذا يريد السَّقام من قمر
كلّ جمال لوجهه تَبَعُ
فلما أفرط في التغزل بنساء مواليه ووصف محاسنهن الظاهرة والخافية عزموا على قتله، فلما قدموا به ليقتلوه لم يمنعه موقفه وهو على شفا الهلاك من قول بيتين يظهر فيهما استهانته بالموت ويفخر بما صنعه بنساء مواليه، قال:
شدو وثاقَ العبد لا يفلتكم
إن الحياة من الممات قريبُ
فلقد تحدّر من جبين فتاتكم
عرقٌ على متن الفِراش وطيبُ
فحفروا له أخدوداً وألقوه فيه ثم ألقوا فوقه الحطب فاحرقوه ([3]).
ـ 3 ـ
قيس بن الخَطيم
قيس بن الخطيم من شعراء قبيلة الأوس المشهورين في الجاهلية، كانت بينه وبين حسان بن ثابت مناقضات، وكان يفخر فيها بقومه الأوس وبوقائعهم مع قبيلة الخزرج، قبيلة حسان، ويعدد مثالبها، وكان لهذا الشعر وقعه الشديد في نفوس الخزرج.
وكان قيس، إلى جانب كونه شاعراً فحلاً، فارساً أبلى أعظم البلاء في الوقائع التي دارت في الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج، قبل أن يوحدهما الإسلام في جماعة قبلية واحدة عرفت بالأنصار، دعوا بذلك لنصرهم رسول الله e في وقائعه مع مشركي قريش وغيهم.
¥