ولهذا لمّا وقعت أحداث 11 سبتمر في نيويورك، أخرجت ما في النفوس من هذه الهزيمة النفسيّة التي هيمنت على شعوبنا، وضربَ الناسُ في كلّ تيه، يفسّرون ما حدث وفق نظرية المؤامرة، لأنّهم كانوا يروون في القوة الأمريكية تفوقا غير مقدور للبشر غلبته، ويستحيل معه الإختراق، فإنّ وقع هذا الإختراق أمام ناظرهم، وألحق الهزيمة بتلك القوّة، ألتجأت نفوسهم التي اعتادت النظرة من (العالم السفلي إلى العلوي)! إلى نظرية المؤامرة، فالحدث لابد أن يكون من أمريكا نفسها، أو من اليهود! وهكذا
ومن هذا المستنقع الإنهزامي، يفسّر بعض الجهّال ظهور قادة الجهاد العالمي المتمرّد على الطاغوت الدولي، مثل الشيخ بن لادن، أو الشهيد ـ نحسبه ـ الزرقاوي، أو من غيرهم من المتمردين،مثل النظام العراقي البائد أو غيره، على أنه تمثيليّة محبكة الأدوار فحسب!
فالجميع ـ عند هؤلاء المغلوب على أمرهم ـ عملاء يؤدّون دورا في السياسية الغربية، وكلّ هذه الأحداث التي نراها، إنما هي تجليّات لهيمنة الغرب نفسه، والتي ليس لها حدود!! ويغلو بعضهم في هذا المنحى، حتى يجعل النظرية أشبه بوحدة الوجود الصوفية!!
وإنما ننكر هنأ أن تُفسّر مسيرة التاريخ بأنها مؤامرة واحدة، يتقاسم أدوارها ممثلون بارعون، فهذا أشبه بالسخف، والهوس، فالتاريخ فيه مؤامرات، لكنّه ليس كل مافيه مؤامرة، لم يكن كذلك قط، ولايكون، وليس هي سنن الله تعالى فيه.
ولسنا ننكر أنّ ثمة قواعد معروفة في عالم المكر السياسي، تجعل الأمور تبدو ـ أحيانا ـ كأنها مؤامرة، وتظهر أطراف الصراع كأنها متآمرة، وأنّ من لايعرفها، تختلط عليه الأوراق، فعالم المكر السياسي يقوم على أسس كثيرة، أهمها ثلاثة:
أحدها: إبقاء الأزمات وإدارتها ما أمكن، إذا كانت الإستفادة منها أنفع من حلّها، أو الإدارة بالأزمة، وهذا فنّ من المكر آخر عجيب، أيْ توفير أسباب الأزمة لتنفجر، ثم الأخذ بخيوطها وتحريكها، لحصد الأطماع منها، ووقوع هذين كثيرٌ جدا في المشهد السياسي العالمي، وحروب الخليج الثلاثة، حرب الخميني، وحرب الكويت، وحرب احتلال العراق كلّها أمثلة واضحة.
الثاني: صناعة توازن القوى، الذي يمنع إنهيار المصالح عندما تتغلّب قوى على أخرى، واستغلال ذلك التوازن لجني المكاسب، وأكثر ما تلجأ الدول عالميا، أو محليا، لهذا الحلّ إذا لم تقدر أن تجعل القوى المتنافسة تابعة لها، ولهذا يبدو أحيانا السكوت عن تنامي قوة معادية في المشهد السياسي، كأنه مؤامرة خفيّة!
الثالث: أنّ عالم المكر السياسي يقوم على فنّ الوصولية، فالغاية تبرر الوسيلة، ومن ذلك أن عقد الصفقات مع أشدّ الناس عداوة، لايعني أنه عميلٌ في صورة عدوّ، بقدر ما يعني أنّه ربما لم يكن الوصول إلى الأهداف السياسية إلاّ عن طريق تلك الصفقات.
ومن هذا أيضا فن التوظيف المباشر، وغير المباشر، كما وظّفت واجهات ومؤسسات دينية، وجماعات إسلامية، في خدمة السياسة الصهيوصليبية العالمية، فهي تحرق في هذا المكر إلى أن تنتهي الحاجة إليها في مرحلتها، وتحت هذا تحدث أمور في غاية العجب، حتى تجد الرجل يتكلم في تفاصيل مسائل التوحيد في مسجده وبين طلاب العلم، وهو بوق من أبواق الحرب الصليبية على منابر الإعلام!!
وهذا لايعني أن كلّ هذه الوسائل محرمة شرعا في جميع صورها، بل ماكان منها خاضعا لأحكام الشريعة، فهو مباح، أو ربّما كان من الجهاد المندوب، أو الوا جب، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الصحابة، وتاريخ المسلمين، أمثلةٌ كثيرة، لإستغلال ما يجوز استغلاله لمصالح المسلمين، وإعلاء كلمة الإسلام، سواء توظيف القوى والصراعات السياسية، واستغلال الخلافات في صفوف الأعداء، واهتبال فرص تقاطع المصالح، والاستفادة من التحالفات، .. إلخ
¥