تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[توبة شاب قبل موته بلحظات في المسجد]

ـ[نياف]ــــــــ[03 - 02 - 07, 03:05 م]ـ

حقاً ما أتعس الإنسان حين تستبد به عاداته وشهواته فينطلق معها إلى آخر مدى.

لقد استعبدت محمداً الخطيئة والنزوة فأصبح منقاداً لها، لا يملك نفسه، ولا يستطيع تحريرها؛ فحرفته إلى حيث لا يملك

لنفسه القياد؛ إلى حيث الهلاك .. فكان يسارع إلى انتهاك اللذات، ومقارفة المنكرات؛ فوصل إلى حال بلغ فيها الفزع

منتهاه، والقلق أقصاه .. يتبدى ذلك واضحاً على قسمات وجهه ومحياه.

لم يركع لله ركعةً منذ زمن. ولم يعرف للمسجد طريقاً .. كم من السنين مضت وهو لم يصلّ .. يحس بالحرج والخجل إذا ما

مرّ بجانب مسجد الأنصار -مسجد الحي الذي يقطنه- لكأني بمئذنة المسجد تخاطبه معاتبة: متى تزورنا ... ؟؟

كيما يفوح القلب بالتقى ..

كيما تحس راحةً .. ما لها انتها ..

كيما تذوق لذة الرجا ....

ليشرق الفؤاد بالسنا ..

لتستنير الورح بالهدى ...

.. متى تتوب؟؟ .. متى تؤوب؟؟ ..

فما يكون منه إلا أن يطرق رأسه خجلاً وحياءً.

شهر رمضان .. حيث تصفد مردة الشياطين، صوت الحق يدوي في الآفاق مالئا الكون رهبةً وخشوعاً .. وصوت ينبعث من

مئذنة مسجد الأنصار ... وصوت حزين يرتل آيات الذكر الحكيم .. إنها الراحة .. إنها الصلاة .. صلاة التروايح.

وكالعادة؛ يمر محمد بجانب المسجد لا يلوي على شيء. أحد الشباب الطيبين يستوقفه، ويتحدث معه ثم يقول له: ما

رأيك أن ندرك الصلاة؟ هيّا، هيّا بنا بسرعة.

أراد محمد الاعتذار لكن الشاب الطيب مضى في حديثه مستعجلاً .. كانت روح محمد تغدو كعصفور صغير ينتشي عند

الصباح، أو بلله رقراق الندى .. روحه تريد أن تشق طريقها نحو النور بعد أن أضناها التجوال في أقبية الضلال.

قال محمد: ولكن لا أعرف لا دعاء الاستفتاح ولا التحيات .. منذ زمن لم اصلِّ، لقد نسيتها.

-كلا يا محمد لم تنسها؛ بل أنسيتها بفعل الشيطان وحزبه الخاسرين .. نعم لقد أنسيتها.

وبعد إصرار من الشاب الطيب، يدلف محمد المسجد بعد فراق طويل. فماذا يجد .. ؟ عيوناً غسلتها الدموع، وأذبلتها العبادة ..

وجوهاً أنارتها التقوى .. مصلين قد حلّقوا في أجواء الإيمان العبقة ..

كانت قراءة الإمام حزينة مترسلة .. في صوته رعشة تهز القلوب، ولأول مرة بعد فراق يقارب السبع سنين، يحلق محمد

في ذلك الجو ... بيد أنه لم يستطع إكمال الصلاة .. امتلأ قلبه رهبة .. تراجع إلى الخلف، استند إلى سارية قريبة منه .. تنهد

بحسرة مخاطباً نفسه: بالله كيف يفوتني هذا الأجر العظيم؟! أين أنا من هذه الطمأنينة وهذه الراحة؟!

ثم انخرط في بكاء طويل .. ها هو يبكي .. يبكي بكل قلبه، يبكي نفسه الضائعة .. يبكي حيرته وتيهه في بيداء وقفار

موحشة .. يبكي أيامه الماضية .. يبكي مبارزته الجبار بالأوزار ... !

كان قلبه تحترق .. فكأنما جمرة استقرت بين ضلوعه فلا تكاد تخبو إلا لتثور مرة أخرى وتلتهب فتحرقه .. إنها حرقة

المعاصي ... أنها حرقة الآثام.

لك الله أيها المذنب المنيب، كم تقلبت في لظى العصيان، بينما روحك كانت تكتوي يظمأ الشوق إلى سلوك طريق الإيمان .. !

كان يبكي -كما يقول الإمام- كبكاء الثكلى .. لقد أخذتْه موجة ألمٍ وندمٍ أرجفتْ عقله فطبعتْ في ذهنه أن الله لن يغفر له.

تحلّق الناس حوله .. سألوه عما دهاه .. فلم يشأ ان يجيبهم .. فقط كان يعيش تلك اللحظات مع نفسه الحزينة .. المتعبة،

التي أتعبها التخبط في سراديب الهلاك.

في داخله بركان ندمٍ وألمٍ، لم يستطع أحدٌ من المصلين إخماده .. فانصرفوا لإكمال صلاتهم ..

وهنا يأتي عبد الله، وبعد محاولات؛ جاء صوت محمد متهدجاً، ينم عن ثورة مكبوتة: لن يغفر الله لي .. لن يغفر الله لي .. ثم

عاد لبكائه الطويل ..

أخذ عبد الله يهون عليه قائلا: يا أخي، إن الله غفور رحيم .. إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده

بالنهار ليتوب مسيء الليل.

هنا يرفع محمد رأسه وعيناه مخضلتان بالدموع .. ونبرات صوته أصداء عميقة .. عميقة الغور قنوطاً من رحمة الله، قائلا:

بشهقات كانت تتردد بين الفينة والأخرى: كلا؛ لن يغفر الله لي .. لن يغفر الله لي ..

ثم سكَتَ ليسترد أنفاسه؛ وليخرج من خزانة عمره ماحوت من أخبار .. وعاد الصوت مرة أخرى متحشرجاً يرمي بالأسئلة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير