وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله قال: رأيت ربي في المنام فقلت: كيف الطريق إليك؟ فقال: أترك نفسك وتعال؟ وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاه صحيح لأنه كالتنبيه لموضع الدليل لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق والوقوف على قدم العبودية والآيات تدل على هذا المعنى كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} وما أشبه ذلك فلو رأى في النوم قائلا يقول: إن فلانا سرق فاقطعه أو عالم فاسأله أو اعمل بما يقول لك أو فلان زنى فحده وما أشبه ذلك لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملا بغير شريعة إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وحي
ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل وأيضا إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه و سلم وهو قد قال:
[من رآني في النوم فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي] وإذا كان فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة
لأنا نقول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جز من أجزائه والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة وفيها كاف
وأيضا فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح وحصول الشروط مما ينظر فيه فقد تتوفر وقد لا تتوفر
وأيضا فهي منقسمة إلى الحلم وهو من الشيطان وإلى حديث النفس وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وترك غير الصالحة؟
ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد الني ضلى الله عليه وسلم وهو منهي عنه بالإجماع
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على من عبرها فقال لي: يظهر لك طاعة ويضمر معصية فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيى المهدي وقال: اخرج عني ثم صرفه وأبعده
وحكى الغزالي إن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن فروجع فيه فاستدل بأن رجلا رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها؟ فقيل: هل دخلتها؟ فقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن فقام ذلك الرجل فقال: لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه؟ فقالوا: لا! فقال: قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضا لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه و سلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئا من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقا لم يخبره بما يخالف الشرع
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه و سلم:
[من رآني في النوم فقد رآني] وفيه تأويلان:
احدهما: ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له: ما تحكم بهذه الشهادة؟ فإنها باطلة فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا وذلك باطل لا يصح أن يعتقد إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ومن سواهم إنما رؤياهم:
جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة
ثم قال: وليس معنى قوله:
[من رآني فقد رآني حقا] أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة بدليل أن الرئي قد يراه مرات على صور مختلفة ويراه الرائي على صفة وغيره على صفة أخرى ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه و سلم ولا صفاته وإنما معنى الحديث: [من رآني على صورتي التي خلقت عليها فقد رآني إذ لا يتمثل الشيطان بي] إذ لم يقل: من رآني أنه رآني وإنما قال: من رآني فقد رآني وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها وهذا ما طريق لأحد إلى معرفته
فهذا ما نقل عن ابن رشيد وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه و سلم وإن اعتقد الرائي أنه هو
والتأويل الثاني يقوله علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر: هذا فلان النبي وهذا الملك الفلاني أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع فيظن الرائي أنه من قبل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يكون كذلك فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفا لكمال الأول حقيق بأن يكون فيه موافقا وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم لأمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة نعم يأتي المرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكما ولا يبنون عليها أصلا وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم
¥