رأيتُ العروس قبل موتها بأيام، فَيَالَلَّهِ من أسرار الموت ورهبته! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح تظهر لأهلها وتقف بينهم وقِفة الوداع!
وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكر مضيء أو فكر مظلم!
يا إلهي! ما هذا الجسم المتهدم المقبل على الآخرة؛ أهو تمثال بطل تعبيره أم تمثال بدأ تعبيره؟
لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد: عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه.
ولها ابتسامة غريبة الجمال؛ إذ هي ابتسامة آلام أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سَجَّانه واقفًا في يده الساعة يرقب الدقيقة والثانية ليقول له: انطلق!
* * *
ودخلتُ أعُودُها فرأت كأنني آتٍ من الدنيا…! وتنسمت مني هواء الحياة. كأنني حديقة لا شخص!
ومَن غير المريض الْمُدْنَف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبدًا إلا العافية؟ مَن غير المريض المُشفي على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟
تلك حالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهلها وأحباؤه!
وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حرب أُجلسوا تحت جدار يريد أن ينقض! وكانت قلوبهم من فزعها تنبض نبضًا مثل ضربات المعاول.
وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهول آخر، فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!
* * *
وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفتت العروس لأبيها تقول: "لا تحزن يا أبي…" ولأمها تقول: "لا تحزني يا أمي…! "
وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضًا؛ تقول لها: "لا تبكي…! " وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حيًّا من أجلهم بضع دقائق! وقالت: "سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكارًا بينكم تذكار عروس! …".
ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت: "أشهد أن لا إله إلا الله" وكررتها عشرًا! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السماوات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها.
ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات! وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها وأسلمت الروح!
يالَعجائب القدر! مَشينًا في جنازة العروس التي تُزف إلى قبرها طاهرة كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلاً حتى أبصرت على حائط في الطريق إعلانًا قديمًا بالخط الكبير الذي يصيح للأعين؛ إعلانًا قديمًا عن (رواية) هذا هو اسمها: "مبروك…! ".
واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أرَ هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان: "مبروك…! ".
وحي القلم
مصطفى صادق الرافعي
ـ[أحمد بن شبيب]ــــــــ[27 - 06 - 07, 07:05 ص]ـ
العنوان يذكرني بهذه الأبيات:
تزود من التقوى فإنك لا تدري @@@ إذا جن ليل هل تعيش الى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة @@@ وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم @@@ وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها @@@ وقد نسجت اكفانها وهي لا تدري
تزود من التقوى فإنك لا تدري @@@ إذا جن ليل هل تعيش الى الفجر
ـ[محمد بن سليمان الجزائري]ــــــــ[02 - 07 - 07, 11:25 ص]ـ
بارك الله فيك
ـ[توبة]ــــــــ[02 - 07 - 07, 12:43 م]ـ
شكرا لكم على مروركم الطيب.
أخي الكريم أحمد،لعلك جمعت بيتين في بيت واحد:
فكم من فتى امسى واصبح ضاحكا ****وقد نسجت اكفانه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها ****وقد قبضت ارواحهما ليلة القدر
عموما، أرجو أن لا تكون اقتصرت على قراءة العنوان فقط ...
ـ[أحمد بن شبيب]ــــــــ[14 - 07 - 07, 06:36 م]ـ
بارك الله فيكي .. وهذه الابيات سمعتها من شيخ فكتبتها في دفتر تلخيصي لأنها اعجبتني ..
ولعل الشيخ حفظه الله .. هو من نسي ...
ولقد قرأت المقالة كلها ...
ولكنني قلت (((العنوان))) هو الذي ذكرني بهذه الابيات .. عندما شاهدته بالمشاركات الجديدة لأول وهلة ..
وجزاكي الله خير الجزاء
ـ[توبة]ــــــــ[14 - 07 - 07, 10:23 م]ـ
وجازاك الله بالمثل أخي الفاضل.