ولم أر ما يدل على ذلك، ولعل كلام ابن رجب صريح في أنه لم يُحبس إلا في تلك المرة مع الشيخ، فقد قال: "وقد امتُحن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة ... "3.
ومما يؤكد - أيضاً - أن فتواه في مسألة الطلاق قد سببت له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشكلات مع القضاة، ما حكاه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من الصلح الذي تم بين السبكي وابن القَيِّم، فقد ذكر في أحداث سنة 750هـ - قبل موت ابن القَيِّم بعام واحد - في السادس عشر من شهر جمادى الآخرة منها، أنه (حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وبين الشيخ شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق) 1.
فالمقصود أنه - رحمه الله - ابتلي وأوذي وامتحن بسبب صدعه بالحق، وإعلانه رأيه وما يعتقده دون مجاملة أو خوف من أحد، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عما قَدَّم خير الجزاء.
2 - وفاتُه:
وبعد هذه الحياة الحافلة بالجهاد المتصل لنشر منهج السلف، ومحاربة كثير من الانحرافات التي ابتدعها الخلف، وما لقيه من محن في سبيل ذلك، وبعد أن كَمُلَ له من العمر ستون سنة، توفي هذا الإمام العالم العلامة، وذلك في ليلة الخميس، ثالث عشر من شهر رجب، من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة (751هـ) وقت أذان العشاء2.
ووقع عند ابن رجب: (ثالث عشرين رجب) 3. ولعله تصحيف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طباعي، فتكون كلمة (من) تصحفت إلى (ين)؟ وذلك لاتفاق المصادر على ما قدمناه من أنه كان في ثالث عشر؛ ولأن ابن رجب من تلاميذ ابن القَيِّم المقَرَّبين، فيبعد أن يخفى عليه يوم وفاته.
ووقع في (البدر الطالع) 1 أنه كان في (ثالث شهر رجب)، وهذا خطأ أيضاً.
وقد صُلِّيَ عليه - رحمه الله - من الغد عقب صلاة الظهر بالجامع الأموي2، ثم بجامع جَرَّاح3.
ولأن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قائماً لله بالحق، صادقاً في النصح للخلق فقد "كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون، من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه"4.
فقد "شَيَّعَه - رحمه الله - خلق كثير"5، "وكانت جنازته مشهودة"6،"وحافلة جداً"7.
نعم لقد كانت جنازته حافلة عامرة، شهدها كثير من الخلق، كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت جنازة شيخه رحمه الله، التي لم يتخلف عنها من أهل دمشق سوى ثلاثة نفر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز"1. كانت هذه جنازته - رحمه الله - مع ما كان له في قلوب الكثيرين من العداوات، ومع ما حِيَكَ ضده من المؤامرات.
وَدُفِنَ - رحمه الله - عند والدته بمقابر الباب الصغير2.
وقد رُؤِيَتْ له بعد موته "منامات كثيرة حسنة"3.
وكان هو - رحمه الله - "قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في النوم، وسأله عن منزلته؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه الله"4.
فَرَحِم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خيراً، وأسكنه فسيح جناته، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له وثناؤهم عليه.
تَقَدَّمَ - عند الكلام على أخلاقه وصفاته - ذكرُ طَرَفٍ من حاله في طلبه للعمل، وشدة محبته له، وجِدِّهِ واجتهاده في تحصيله ليلاً ونهاراً.
ولقد أثمر هذا الجهد المتواصل، وتلك المحبة الصادقة للعلم ودرسه، أطيب الثمار، فَنَبَغَ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في علوم عديدة، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وفاق في ذلك أَقْرانَهُ وأهلَ عصره، ولم يُر في وَقْتِهِ مِثْلُهُ.
ولقد شهد له تلاميذه ومعاصروه - بل وبعض شيوخه - بطول الباع، وعلو الشأن، وبلوغ الغاية في شتى العلوم وسائر الفنون، فلنذكر طرفاً من شهادات هؤلاء الأئمة وثنائهم عليه، ليعرف بذلك قدره، ومدى تقدمه وعلو شأنه، فمن ذلك:
1 - قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي1: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه"2.
2 - وقال شيخه المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
¥