قال: والإشكالية من وجهة نظري ليست في وجود هذا الصنف؛ إذ ما فتئ محبو الخير من الجهلة وذوي الأفهام المحدودة وأصحاب المصالح المشوبة موجودين في كل مكان وحين، ولا بد من استيعابهم والإفادة منهم .. ولكنها كامنة في تصدُّر تلك الفئة وتغلغلها في بعض المواقع القيادية للعمل الدعوي والخيري، وهي قضية إن لم يبادر إلى معالجتها شجعان النَصَحَة المدركون لواقع العمل الإسلامي فإنَّ جوانب الضعف ستتفاقم ويزداد الأمر سوءاً، وعندها سيبكي كثير من المخلصين، ولكن بعد خراب الديار وفوات الأوان، لا قدر الله عزَّ وجلَّ.
فقلت عندها لذلك الجليل: ما السبيل إلى معالجة هذا الإشكال وتجاوزه وأنت راءٍ عمقه وخطره وسط درة أمتنا المضيئة: التيارات الدعوية والمؤسسات الخيرية؟
فأجابني قائلاً: لا حلول سحرية، ولا بد أن يأخذ الزمن مداه في عملية المعالجة؛ لأن البناء دوماً أطول وأشق بكثير من الهدم؛ فكيف إذا تلبَّس الباطل بأثواب الحق ووقع بعض الأخيار في شيء من الباطل، وتطلَّب الأمر عملية إقناع ثم هدم فبناء؟ مما يعني أن قناعة المعالج وإدراكه لحجم الخطأ ومقدار الخطورة لا بد أن تكون عالية، وعزيمته لا بد أن تكون ماضية، وتجرده لله ـ تعالى ـ وجرأته في قول الحق لا بد أن تكون قوية، ووجود المعين المسدد على امتلاك مزيد من التدبير والحكمة أمر في غاية الضرورة، وسرعة المبادرة وإدراك أهمية الوقت وإلحاح المرحلة لا بد أن يكون جلياً. هذا من جهة المقومات الأساسية في من يتصدر للمعالجة.
أما من ناحية عامة؛ فالظاهر لي أن المعالجة تتعلق بأكثر من جانب؛ إذ لا بد من:
* تشجيع النقد البنَّاء، وفتح أبواب المناصحة، والإعانة على ممارسة الحسبة المسدِّدَة على العلماء والدعاة وفي أروقة تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته الدعوية والخيرية.
* إعادة الدور القيادي للعلماء الربانيين وأهل النظر الثاقب والفكر المستنير بأصول الشرع ومنطلقاته، سواء أكانوا من داخل فصائل العمل الإسلامي أم من خارجه؛ كل فيما يحسنه حتى تتكامل جهودهم مع الدور الهام الذي يقوم به أهل التنفيذ والممارسة ومن يمتلك القرار الإداري والمالي داخل تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته، وكثير منهم من الصنف الثاني.
* إعادة النظر في المناهج التربوية والممارسات الدعوية والآليات الإدارية داخل مؤسسات العمل الإسلامي وتياراته، والتي أفرزت هذا النتاج الذي لا يتلاءم في جزء منه بصورة جلية مع طبيعة الإسلام ونقاوته؛ وذلك من خلال الغَرْف القوي من المعين النبوي ونهج أئمة الدين من الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم في الدعوة والبناء والتربية.
* البدار إلى تقوية الفئة الضعيفة المتعلقة بالخشبة المحمولة داخل أروقة العمل الإسلامي ومؤسساته في أي مجال من مجالات القوة المعنوية والمادية المتعددة، والعمل على إقناعها من خلال ممارسات عملية متكررة بأن مكانتها ومصالحها لن تتأثر، وأنهم وإن تركوا بعض المواقع التي هم فيها لمن هو أكثر علماً وعمقاً وروية فإنهم قادرون على العيش في الأجواء الدعوية، وهم محل تقدير واحترام؛ لأن الحاجة إليهم والإفادة من عطائهم وإمكاناتهم وخبراتهم التنفيذية ستبقى ملحة مهما اختلفت الأدوار وتبدلت الرتب.
ثم أردف صاحبي قائلاً: وأعتقد أن من الواقعية بمكان إدراك أن مقاومة المعالجة والتغيير وعدم إفساح المجال لأهل العلم والفكر والتجرد ليس كله هوى محضاً، بل هو مشوب ببعض الحق وبتخوفات موضوعية على مكتسبات الصحوة من زاوية، وبضعف ظاهر في الطرح وامتلاك زمام المبادرة لدى عامة علماء الأمة ومفكريها، وقد قيل: لا تَلُمِ القوي المبادر على قوته وسرعة مبادرته، ولكن لُمِ الضعيف على ضعفه وتقاعسه.
وحدث طارئ، فتوقف الشيخ الجليل عن الحديث، وانتهى اللقاء، وكنت لانقضائه كارهاً.
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشداً، واحفظنا واحفظ بنا، واستخدمنا في طاعتك، يا جواد يا كريم!
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: مجلة البيان - العدد 238 - جمادى الآخر 1428هـ