تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الله كريم في الآخرة دون الدنيا وَقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وَأن ربَّ الآخرة وَالدنيا وَاحد وَأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

ويحك يا نفسُ! ما أعجب نفاقك وَدواعيك الباطلة، فإنك تدعين الإيمان بلسانك وَأثر النّفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك وَمولاك: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة هود:6].

وَقال في أمر الآخرة: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [سورة النجم:39]، فقد تكفَّل لك بأمر الدنيا خاصة وَصرفكِ عَنْ السَّعي فيها فكذبتِهِ بأفعالك وَأصبحتِ تتكالبين على طلبها تَكالب المدهوش المستهتر، وَوكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضتِ عنها إعراض المغرور المستحقر، ما هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدَّرك الأسفلِ من النار.

وَيحك يا نفسُ! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وَتظنين أنك إذا مت انفلت وَتخلصت وَهيهات، أتحسبين أنك تُتْرَكِينَ سُدَىً ألم تكوني نطفة من منى يمنى، ثم كنتِ علقةً فخلق فسوى، أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى، فَإِن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وَأجهلك، أما تتفكرين أَنَّهُ من ماذا خلقك، من نطفة خلقك فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} [سورة عبس:22]، فَإِن لم تكوني مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك، وَلو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وَتركته وَجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وَقول الله تَعَالَى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودي يخبرك عَنْ حَدِسٍ وَتخمين، وَظن مع نقصان عقل وَقصور علم، وَالعجب أَنَّهُ لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربًا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وَبرهان، أفكان قول الأنبياء وَالعلماء وَالحكماء وَكافة الأولياء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء؟!، أم صار حرّ جهنم وَأغلالها وَأنكالها وَزقومها وَمقامعها وَصديدها وَسمومها وَأفاعيها وَعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أَوْ أقل منه؟!، ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وَسخروا من عقلك.

فَإِن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وَآمنت به فما لك تسوفين العمل وَالموت لك بالمرصاد وَلعله يختطفك من غير مهلة فبماذا أمنت استعجال الأجل، وَهبك أنك وَعدت بالإمهال مائة سنة، أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وَطنه هل كنت تضحكين من عقله وَظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة, أَوْ حسبانه أن مناصب الفقهاء تُنالُ من غير تفقهٍ اعتمادًا على كرمِ اللهِ، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع وَأنه موصل إلى الدرجات العلا فلعل اليوم آخر عمرك فلم تشتغلين فيه بذلك، فَإِنَّ أوحى إليك بالإمهال فما المانع من المبادرة؟!، وَما الباعث لك على التسويف؟!، هل له سبب إلا عجزك عَنْ مخالفة شهواتك لما فيها من التعب وَالمشقة؟! أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط وَلا يخلقه، فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، وَلا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، وَهذا محال وَجوده، أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وَتقولين: غدًا غدًا. فقد جاء الغد وَصار يومًا فكيف وَجدته؟! أما علمت أن الغد الذي جاء وَصار يومًا كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غدًا عنه أعجز وَأعجز؛ لأن الشَّهوة كالشَّجرة الرّاسخة التي تعبد العبد بقلعها فإذا عجز العبد عَنْ قلعها للضعف وَأخَّرَها كان كمن عجز عَنْ قلع شجرة وَهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى؛ مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة وَرسوخًا وَيزيد القالع ضعفا وَوهنا، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم وَمن التعذيب تهذيب الذيب.

فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية؛ وَتركنين إلى التسويف، فما بالك تدعين الحكمة وَأية حماقة تزيد على هذه الحماقة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير