ولعلك تقولين: ما يمنعني عَنْ الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات وَقلة صبري على الآلام وَالمشقات. فما أشد غباوتك!! وَأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك!! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عَنْ الكدورات الدائمة أبد الآباد وَلا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فَإِن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها قرب أكلة تمنع أكلات.
وما قولك في عقل مريض؛ أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح وَيهنأ بشربةٍ طول عمره، وَأخبره أَنَّهُ إن شرب ذلك مرض مرضًا مزمنًا؛ وَامتنع عليه شربه طول العمر، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشَّهوة، أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر؛ أم يقضي شهوته في الحال خوفا من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم؛ وَثلاثة آلاف يوم؛ وَجميع عمرك، بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وَعذاب أهل النار.
وليت شعري ألم الصبر عَنْ الشَّهوات أعظم شدة وَأطول مدة, أَوْ ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة؛ كيف يطيق ألم عذاب الله؟! ما أراك تتوانين عَنْ النظر لنفسك إلا لكفرٍ خفي, أَوْ لحمق جلي.
أما الكفر الخفي: فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب، وَقلة معرفتك بعظم قدر الثواب وَالعقاب.
وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كَرِم الله تَعَالَى وَعفوه من غير التفات إلى مكره، وَاستدراجه وَاستغنائه عَنْ عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز, أَوْ حبةٍ من المال, أَوْ كلمةٍ وَاحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل.
ويحك يا نفسُ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا وَلا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك، وَلا تضيعي أوقاتك فالأنفاس معدودة فإذا مضى منك نفسٌ فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصِّحة قبل السِّقم، وَالفراغ قبل الشغل، وَالغنى قبل الفقر، وَالشَّباب قبل الهرم، وَالحياة قبل الموت، وَاستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.
يا نفسُ! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته فتجمعين له القوت وَالكسوة وَالحطب وَجميع الأسباب، وَلا تتكلين في ذلك على فضل الله وَكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة وَلبد وَحطب وَغير ذلك، فَإِنَّهُ قادر على ذلك، أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخفُّ بردًا وَأقصر مدة من زمهرير الشّتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا، كلا أن يكون هذا كذلك, أَوْ أن يكون بينهما مناسبة في الشّدة وَالبرودة، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي، هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبةِ وَالنار وَسائر الأسباب فلا يندفع حرّ النار وَبردها إلا بحصن التوحيد وَخندق الطَّاعات، وَإنما كرم الله تَعَالَى في أن عرّفك طريق التحصن، وَيسر لك أسبابه؛ لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله تَعَالَى في دفع برد الشتاء أن خلق النار، وَهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وَحجر؛ حتى تدفعي بها برد الشتاء عَنْ نفسك، وَكما أن شراء الحطب وَالجبة مما يستغنى عنه خالقك وَمولاك، وَإنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببًا لاستراحتك، فطاعاتك وَمجاهداتك أيْضًا هو مستغن عنها وَإنما هي طريقك إلى نجاتك، فمن أحسن فلنفسه وَمن أساء فعليها، وَالله غني عَنْ العالمين.
ويحك يا نفسُ! انزعي عَنْ جهلك وَقيسي آخرتك بدنياك فـ {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [سورة لقمان:28]، وَ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء:104] وَ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف:29]، وَسنة الله تَعَالَى لا تجدين لها تبديلا وَلا تحويلا.
وَيحك يا نفس! ما أراك إلا أَلِفْتِ الدُّنْيَا وَأَنِسْتِ بِهَا؛ فعسر عليك مفارقتها وَأنت مقبلة على مقاربتها، وَتؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عَنْ عقاب الله وَثوابه، وَعن أهوال القيامة وَأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرِّق بينك وَبين محابك.
¥