وَيحك يا نفس! أتعلمين أن كلّ من يلتفت إلى ملاذ الدنيا وَيأنس بها مع أن الموت من وَرائه, فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة, وَإنما يتزود من السُّم المهلك وَهو لا يدري, أَو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وَعلوا, ثم ذهبوا وَخلوا, وَكيف أورث الله أرضهم وَديارهم أعداءهم؟! أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، وَيبنون ما لا يسكنون، وَيؤملون ما لا يدركون؟، يبني كُلُّ وَاحدٍ قصرًا مرفوعًا إلى جهةِ السماءِ, وَمقره قبر محفور تحت الأرض. فهل في الدنيا حمق وَانتكاس أعظم من هذا؟ يعمر الواحد دنياه وَهو مرتحل عنها يقينا, وَيخرب آخرته وَهو صائر إليها قطعا؟.
وَيحك يا نفس! أما تستحيين من مساعدةِ هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟
وَاحسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور, وَإنما تميلين بالطَّبع إلى التشبه والإقتداء، فقيسي عقل الأنبياء وَالعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا, وَاقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل وَالذكاء.
وَيحك يا نفس! ما أعجب أمرك, وَأشد جهلك وَأظهر طغيانك! عجبا لك كيف تعمين عَنْ هذه الأمور الواضحة الجليلة! وَلعلك يا نفسُ أسكرك حبُّ الجاه، وَأدهشك عَنْ فهمها, أَو ما تتفكرين أَنَّ الجاهَ لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض النّاس إليك، فاحسبي أن كل من على وَجه الأرض سجد لك وَأطاعك, أفما تعرفين أَنَّهُ بعد خمسين سنة لا تبقين أنت وَلا أحد ممن على وَجه الأرض ممن عبدك وَسجد لك، وَسيأتي زمان لا يبقى ذِكْرك وَلا ذكر من ذكرك, كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك، فـ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [سورة مريم:98].
فكيف تبيعين يا نفسُ ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟، هذا إن كنت ملكا من ملوك الأرض سلم لك الشرق وَالغرب حتى أذعنت لك الرقاب, وَانتظمت لك الأسباب، كيف ولا يسلم لك من ذلك شيئا؟، فَإِن كنت يا نفسُ لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وَعمى بصيرتك, فما لك لا تتركينها ترفعًا عَنْ خسة شركائها, وَتنزها عَنْ كثرة عُنَّائها, وَتوقيا من سرعة فنائها, أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها، وَما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود وَالمجوس يسبقونك بها؟ وَيزيدون عليك في نعيمها وَزينتها, فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء، فما أجهلك وَأخس همتك وَأسقط رأيك إذ رغبت عَنْ أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين وَالصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبدين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا وَالدين.
وَيحك يا نفس! فبادري -وَيحك- فقد أشرفت على الهلاك وَاقترب الموت وَورد النذير فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟، وَمن ذا يصوم عنك بعد الموت؟، وَمن ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟.
وَيحك يا نفس! مالك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها وَقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف إذا ضيعت البقية وَأصررت على عادتك؟، أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك، وَالقبر بيتك، وَالتراب فراشك، وَالدود أنيسك، وَالفزع الأكبر بين يديك؟، أما علمت يا نفس أن عسكر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وَقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان المغلظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم، أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم, وَأنت في أمنيتهم وَيوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه, وَأنت تضيعين أيامك في الغفلة وَالبطالة.
وَيحك يا نفس! أما تستحيين تزينين ظاهرك للخلق, وَتبارزين الله في السر بالعظائم، أفتستحيين من الخلق وَلا تستحيين من الخالق، وَيحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين النّاس بالخير وَأنت متلطخة بالرذائل؟! تدعين إِلَى اللهِ وَأنت عنه فارة؟! وَتذكرين بالله وَأنت له ناسية؟! أما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة وَأن العذرة لا تطهر غيرها، فلم تطمعين في تطهير غيرك وَأنت غير طيبة في نفسك؟!
وَيحك يا نفس! لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن النّاس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك.
¥