وَيحك يا نفس! قد جعلت نفسك حمارًا لإبليس يقودك إلى حيث يريد وَيسْخَر بك, وَمع هذا فتعجبين بعملك وَفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأسا برأس لكان الربح في يديك، وَكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وَزللك، وَقد لعن الله إبليس بخطيئة وَاحدة بعد أن عبده ما عبده مائتي ألف سنة، وَأخرج آدم من الجنة بخطيئة وَاحدة مع كونه نبيه وَصفيه.
وَيحك يا نفس! ما أغدرك!!
وَيحك يا نفس! ما أوقحك!!
وَيحك يا نفس! ما أجهلك!! وَما أجرأك على المعاصي!!
وَيحك كم تعقدين فتنقضين!!
وَيحك كم تعهدين فتغدرين!!
وَيحك يا نفس! أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟! , أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيرا، وَبنوا مشيدا، وَأمَّلوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وَبنيانهم قبورا، وَأملهم غرورا؟!
وَيحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وَأنت من المخلدين؟! هيهات هيهات ساء ما تتوهمين ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك, فابني على وَجه الأرض قصرك فَإِنَّ بطنها عَنْ قليل يكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وَكلح الوجوه، وَبشرى بالعذاب، فهل ينفعك حينئذ الندم؟ أَوْ يقبل منك الحزن؟ أَوْ يرحم منك البكاء؟ وَالعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة وَالفطنة، وَمن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك وَلا تحزنين بنقصان عمرك وَما نفع مال يزيد وَعمر ينقص.
وَيحك يا نفس! تعرضين عَنْ الآخرة وَهى مقبلة عليك، وَتقبلين على الدنيا وَهى معرضة عنك، فكم من مستقبل يوما لا يستكمله، وَكم من مؤمل لغد لا يبلغه، فأنت تشاهدين ذلك في إخوانك وَأقاربك وَجيرانك، فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عَنْ جهالتك، فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبد أمره في الدنيا وَنهاه حتى يسأله عَنْ عمله دقيقه وَجليله، سره وَعلانيته، فانظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله، وَبأي لسان تجيبين، وَأعدي للسؤال جوابا، وَللجواب صوابا، وَاعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وَفي دار زوال لدار مقامة، وَفي دار حزن وَنصب لدار نعيم وَخلود، اعملي قبل أن لا تعملي، اخرجي من الدنيا اختيارا خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، وَلا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا فرب مسرور مغبون، وَرب مغبون لا يشعر، فويل لمن له الويل ثم لا يشعر, يضحك وَيفرح وَيلهو وَيمرح وَيأكل وَيشرب وَقد حق له في كتاب الله أَنَّهُ من وَقود النار.
فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا، وَسعيك لها اضطرارا، وَرفضك لها اختيارا، وَطلبك للآخرة ابتدارا، وَلا تكوني ممن يعجز عَنْ شكر ما أوتي، وَيبتغي الزيادة فيما بقي، وَينهى النّاس وَلا ينتهي، وَاعلمي يا نفس أَنَّهُ ليس للدين عوض، وَلا للإيمان بدل، وَلا للجسد خلف، وَمن كانت مطيته الليل وَالنهار فَإِنَّهُ يسار به وَإن لم يسر.
فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة وَاقبلي هذه النصيحة، فَإِنَّ من أعرض عَنْ الموعظة فقد رضي بالنار، وَما أراك بها راضية، وَلا لهذه الموعظة وَاعية، فَإِن كانت القساوة تمنعك عَنْ قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد وَالقيام، فَإِن لم تزل فالمواظبة على الصيام، فَإِن لم تزل فبقلة المخالطة وَالكلام، فَإِن لم تزل فبصلة الأرحام وَاللطف بالأيتام، فَإِن لم يبق فيك مجال للوعظ؛ فاقنطي من نفسك وَالقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك, فلا سبيل لك إلى القنوط وَلا سبيل لك إلى الرّجاء مع انسداد طرق الخير عليك, فَإِنَّ ذلك اغترار وَليس برجاء، فانظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها وَهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك فَإِن سمحت فمستقى الدّمع من بحر الرَّحمة فقد بقى فيك موضع للرجاء فواظبي على النياحة وَالبكاء.
وَاستعيني بأرحم الراحمين، وَاشتكي إلى أكرم الأكرمين، وَأدمني الاستغاثة، وَلا تملي طول الشّكاية لعله أن يرحم ضعفك وَيغيثك، فَإِنَّ مصيبتك قد عظمت، وَبليتك قد تفاقمت، وَتماديك قد طال، وَقد انقطعت منك الحيل، وَراحت عنك العلل، فلا مذهب، وَلا مطلب، وَلا مستغاث، وَلا مهرب، وَلا ملجأ، وَلا منجا إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، وَاخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك وَكثرة ذنوبك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل, وَيغيث الطالب المتلهف, وَيجيب دعوة المضطر وَقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وَإلى رحمته محتاجة، وَقد ضاقت بك السبل وَانسدت عليك الطرق، وَانقطعت منك الحيل، وَلم تنجح فيك العظات، وَلم يكسرك التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، وَالمسئول جواد، وَالمستغاث به بر رءوف وَالرحمة وَاسعة وَالكرم فائض وَالعفو شامل وَقولي: "يا أرحم الراحمين يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم, هذا مقام المتضرع المسكين، وَالبائس الفقير، وَالضعيف الحقير، وَالهالك الغريق فعجل إغاثتي وَفرجي, وَأرني آثار رحمتك, وَأذقني برد عفوك وَمغفرتك، وَارزقني قوة عصمتك يا أرحم الراحمين". (1)
عنوان المقال:
http://www.salahmera.com/modules.php?name=News&file=article&sid=39
¥