وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله، فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته: رضيت بما نالها في الله
وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره
ومتى تسخط به وتشكى منه كان ذلك دليلا على كذبه في محبته، والواقع شاهد بذلك، والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدي أرضا * للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن.
فصل المشهد الخامس: مشهد الإحسان
وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك،
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها
وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم.
ويهونه عليك أيضا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد منه، وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
فصل المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب
وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟!
فصل المشهد السابع: مشهد الأمن
فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم: واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرا فكم من حقير أردى عدوه الكبير، فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل: أمن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك أيضا.
فصل المشهد الثامن: مشهد الجهاد
وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته
وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكة أعزها الله ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه: " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " لقمان: 17
فصل المشهد التاسع: مشهد النعمة
وذلك من وجوه أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ، فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما
¥