وبهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشر الخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عز وجل في حياته العامة والخاصة، ويضع موضع التنفيذ قول الحق تبارك وتعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام /163، قال القرطبي (محياي) أي: ما أعمله في حياتي، (ومماتي) أي: ما أوصي به بعد وفاتي، (لله رب العالمين) أي: أفرده بالتقرب بها إليه) 7/ 69.
(2) تحري لليلة القدر:
وهو المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم إذ بدأ اعتكافه أول مرة الشهر كله وكذلك اعتكف العشر الأواسط تحرياً لهذه الليلة المباركة، فلما علم أنها تكون في العشرة الأخيرة من شهر رمضان اقتصر اعتكافه على هذه العشر المباركة.
(3) تعوّد المكث في المسجد
فالمعتكف قد الزم نفسه البقاء في المسجد مدة معينة. وقد لا تقبل النفس الإنسانية مثل هذا القيد في بداية أمر الاعتكاف، ولكن عدم القبول هذا سرعان ما يتبدد عادة بما تلقاه النفس المسلمة من راحة وطمأنينة في بقائها في بيت الله.
ومعرفة المعتكف بأهمية بقائه في المسجد أثناء اعتكافه تتجلى في الأمور التالية:
1 - أن الرجل الذي يمكث في المسجد قد احب المسجد من قلبه، وعرف قدر بيوت الله عز وجل، وهذا الحب له قيمة عند الله عز وجل؛ إذ يجعله من الفئات التي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2 - أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجر صلاة، وأن الملائكة تستغفر له، ففي الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في مصلاه ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) البخاري 2/ 360 فتح الباري.
3 - البعد عن الترف المادي والزهد فيه:
في الاعتكاف يتخفف المعتكف من الكثير من هذه الأمور، ويصبح كأنه إنسان غريب في هذه الدنيا، وطوبى للغرباء، فهو من أجل مرضاة الله عز وجل ارتضى أن يقبع في ناحية من المسجد ليس لديه في الغالب إلا وسادة يضع عليها رأسه وغطاء يتغطى به، قد ترك فراشه الوثير وعادته الخاصة من أجل ذلك الرضا.
أما طعامه فهو مختلف في وضعه، إن لم يكن في نوعه، إن كان طعامه يأتيه من منزله، فهو عادة لا يأتيه بالكثرة ولا يتناوله بالوضع الذي كان يتناوله في منزله على طاولة وكرسي مع أهله وولده، بل يأكل كما يأكل الغريب، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه، وإن خرج إلى السوق من أجل الطعام فهو يعمل جاهداً على التعامل مع ما هو متوفر ولا يشترط نوعاً معيناً، لأنه مطلوب منه العودة إلى معتكفه، وعدم الإطالة في مثل هذه الأمور، وبهذا يعرف أن الحياة يمكن إدارتها بالقليل الذي يرضى عنه الله، وكذلك يمكن إدارتها بالكثير الذي لا يُرضي الله عز وجل، والفرق بينهما كبير.
(5) الإقلاع عن كثير من العادات الضارة:
في ظل غياب مفهوم التربية الإسلامية في كثير من المجتمعات الإسلامية، وفي كثير من بيوت المجتمعات الإسلامية. نشأت وتفشّت لدى أفراد هذه المجتمعات كثير من العادات التي تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، وعمّت هذه العادات المنكرة حتى أصبحت نوعاً من المعروف الذي لا يرى فيه ضرر على الدين والنفس، ومن تلك العادات: التدخين، وسماع الموسيقى، ومشاهدة ما يبث في القنوات الفضائية من مشاهد وأحاديث تضادّ عقيدة المسلم وتُنافي حياءه وعفّته، وغير ذلك من عادات لها ضررها على الدين والنفس.
وتأتي فترة الاعتكاف لتكشف للفرد المسلم زيف تلك العادات، وزيف ذلك الاعتقاد الذي سكن في نفوس كثير من المسلمين بعدم القدرة على التخلص من مثل تلك العادات، لأنها قد استحكمت في النفوس.
ويتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف، وقد خلا إلى خالقه، على مفهوم العبادة بصورتها الشاملة، وأنه يجب أن يكون متعبداً لله عز وجل على مدار الساعة في حياته العامة والخاصة.
¥