تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يلبث الشيخ في دكانه مشرفا على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دقّ وجل من شؤونه… اختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تألف جمعية لحل الخلاف… والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له… وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وآذى السابلة فلينصح وليجبر على رفع الأذى عن الناس…

أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريباً عن الحي حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلاً يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا أخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأة في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها إلى نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده. وإن فتح امرؤ شباكا على الجادة سدّوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من داخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقيا من الفواحش صيناً، أهل كأهل الدار الواحدة لا يضن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا بماله، وإذا أقام أحدهم وليمة، أو كان عنده عرس أو ختان، فكل ما في الحي من طباق و (صوان) وكؤوس تحت يده وملك يمينه.

* * * * * * * * *

مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة أطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم… ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يراها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته، فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلما لامست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة، وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصا لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، فدخل الشيخ وصاح: (روحوا من الطريق)، فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب -على عادة نساء البلد- فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض… وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره، ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به…

* * * * * * * * *

مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي… ((صارت الساعة الثامنة… يلاّ يا بنت، حضري الخوان… والقبقاب؟ هل هو في مكانه…))، وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها، وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير