وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها كل أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل أمقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته، ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح تعجن العجين.
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟ لقد آلمها وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته وهوله، فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز.
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها. ثم هدأ صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وفق حائراً يبكي.
ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا، وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب… بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها… ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمة لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحاً، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً، وهو لا يأسى على شيء ضاع بعدما أضاع شقيقة نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!
بقلم: علي الطنطاوي
http://www.alnoor.info (http://www.alnoor.info)
ــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني / الوعد الشرقي
قال لي صديق من زملائي في المحكمة:
كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتا هائلا له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر بئر، أو يصرخ في الحمام، يقول:
السلام عليكم.
فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن رجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يدا كالمخاطب يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يدخل نفسه فيه فلم يستطع، فلبث واقفا وعرض حاجته وهي دعوة إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا، ولم يكن من عادي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض، لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، وآثرت السلامة ووعدته.
قال: أين نلتقي؟ فخفت أن أدله على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا الساعة الثالثة بالضبط.
قال: نعم، وولى ذاهبا كأنه عمارة تمشي.
وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني، فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني، حسبني أحد أرباب الدعاوى، فقال: (ما فيها أحد، سكرت المحكمة) فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلا وأضع أخرى، وأقبل مرة وأدبر مرة، أنظر من هنا وهناك، فكلما رأيت من بعيد شيئا كبيرا أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملا عليه حطب، أو حمارا فوقه تبن، أو تاجرا من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس، حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي
¥