وهذا يوسف عليه السلام , كيف يختار فتنة السجنِ على الوقوع في فتنةِ امرأة العزيز كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)} [سورة يوسف: 33]
فكل من خشي الفتنةُ على دينهِ في مكان شرع له الهجرة إلى مكان آخر يقيم فيه دينه و لو أقل فتنة.
قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)} [سورة النساء: 100]
ومن سدت أمامه الأبواب , وحارت بعقله الفتن , وجب عليه الصبر مع إظهار دينه حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
عَنْ خَبَّابٍ , قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ , قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ , ثُمَّ تُبْعَثَ , قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ , فَنَزَلَتْ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا. (14)
وهذا بخلاف من يتقلبُ مع الأيامِ ويتلون مع الزمان إن وافقَ الحق هواه قبل وإن خالفهُ حاد عنهُ وسخط؛ كحال من يستخفونَ من الناسِ ولا يستخفون من الله.
قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)} [سورة العنكبوت: 10]
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المثل في الصبر والتحمل والجهر بالحق وتبليغ أمر الله دون أن يداهن في أمر الله أحد , وهو يمضي إلى ربه صابراً محتسباً لا يعيقه شيء.
عَنْ أَنَسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ , وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ , وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ , وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ , قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنْ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُهُ تَحْتَ إِبْطِهِ. (15)
وكان صلى الله عليه وسلم يثبت أصحابه , وهم يتحملون صنوف العذاب في اللهِ تعالى فيصبرهم , ويشد من أزرهم , ويخبرهم بحسن المثوبة عند الله , فيمر على آل ياسر وهم يعذبون , فيقول لهم: صبرا آل ياسر , فإن موعدكم الجنة , وكان صلى الله عليه وسلم يخشى على أصحابه الفتنة , فإن رأى منهم استعجالاً وحيرة يغضب لذلك , ويبشرهم بنصر الله.
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ , قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ , قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا , أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا , قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ , فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ , وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ , وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ , وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ , وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا
¥