كما يمكننا القول كذلك: أن من كان تأويله مؤداه إلى إبطال العمل بالأحكام الظاهرة للشريعة .. أو جحود الخالق -سبحانه وتعالى- .. أو إبطال مقاصد الشريعة وغاياتها .. أو رد النصوص المحكمة وإبطال العمل بها .. فهذا النوع من التأويل ـ وإن سُمي تأويلاً ـ كفر وزندقة .. لا يمكن أن يُدرج في خانة التأويل المستساغ أو المعتبر .. ! والعلم عند الله
ـ[إسلام بن منصور]ــــــــ[11 - 12 - 07, 05:51 ص]ـ
وأزيدك توضيحا فأقول:
إن التاويل المراد به هنا وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد، أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النص، أو فهمه فهما خاطئا ظنه حقا، أو ظن غير الدليل دليلا، كالاستدلال بحديث ضعيف ظنه صحيحا، فيقدم المكلف على فعل الكفر وهو لا يراه كفرا، فينتفي بذلك؛ (شرط العمد)، ويكون الخطأ في التأويل مانعاً من التكفير، فإذا أقيمت الحجة عليه وبين خطؤه فأصر على فعله كفر حينئذ.
ودليل هذا إجماع الصحابة على اعتبار هذا النوع من التأويل من باب الخطأ الذي غفره الله تعالى وذلك في حادثة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر مع جماعه ... وقد تقدمت.
قال ابن تيمية في الصارم: (حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه، فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا) أهـ ص530 … ثم إن عمر بين له غلطه وقال له: (أما إنك لو اتقيت لاجتنبت ما حرم عليك، ولم تشرب الخمر .. ) فرجع، ولم يكفره بذلك، بل اكتفى بإقامة حد الخمر عليه، ولم يخالفه أحد من الصحابة بذلك.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) أ هـ. مجموع الفتاوي (7/ 609 - 610)
وأما ما يدفع به بعض الزنادقة والملاحدة، كفرهم الصريح من سفسطة وتمويه وتلاعب بالدين، فهو وإن سماه بعض الجهلة تأويلاً .. إلا انه مردود وغير مستساغ ولا مقبول، وذلك لصراحة كفرهم ووضوحه .. والعبرة للمعاني والحقائق، لا للأسماء والألفاظ التي يتلاعب بها كثير من أهل الأهواء .. فكم من باطل زخرفه أصحابه ليعارض به الشرع.ولذلك نقل القاضي عياض في الشفا قول العلماء: (إدعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل) أهـ (2/ 217)
ولذا قال ابن حزم: (ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم فتأول في خلافه إياه، أو ربما بلغه بنص آخر، فلم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة) أهـ الدرة (414)
فيجب التنبه إلى أن قدامة الذي عذر بالتأويل، كان الأصل فيه الصلاح، فقد كان صحابياً بدرياً، وهو خال عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين، وكانت تحته صفية بنت الخطاب أخت عمر، روى ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 341) بإسناده عن أيوب بن أبي تميمة قال: (لم يحد في الخمر من أهل بدر إلا قدامة بن مظعون) أهـ
ولذلك قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته بحرق جثمانه قال: (والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من المغفرة من مثل هذا) أهـ (3/ 148)
وقد ذكر القاضي عياض في الشفا (2/ 272وما بعدها) خلاف السلف في تكفير من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به لا على طريق السب والردة،بل على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة.
والصواب ما فصله العلماء في ذلك بين التأويل الذي له مسوغ في لغة العرب، كأن يؤول صفة اليد لله تعالى بالنعمة أو القوة، فهذا لا يوجب الكفر، رغم مخالفته للحق الذي كان عليه السلف، لأن في لغة العرب إطلاق القوة والنعمة على اليد؛ لذلك عذر المتأول فيه رغم خطئه وانحرافه عن ظاهر نصوص الشرع، وبين التأويل الذي لا مسوغ له، كمن أوّل قوله تعالى ((بل يداه مبسوطتان)) مثلاً، بالحسن والحسين أو بالسماوات والأرض، فهذا يوجب الكفر لأنه لا يصح في لغة العرب إطلاق اليد على مثل ذلك.
وليس ثم نص شرعي يوجب نقل الحقيقة اللغوية إلى حقيقة شرعية خاصة .. فهو على ذلك من التلاعب في دين الله والإلحاد في أسمائه سبحانه، وليس من التأويل الذي يعذر صاحبه في شيء.
فتأمل التفريق فإنه مهم ..
وعلى هذا فما كان من التأويل ناشئاً عن محض الرأي والهوى، دون استناد إلى دليل شرعي، ولا هو بمستساغ في لغة العرب، فإنه ليس من الاجتهاد في شيء، بل هو من التأويل الباطل المردود الذي لا يعذر صاحبه، إذ هو تلاعب بالنصوص، وتحريف للدين، عبر عنه بمسمى التأويل، ولذا قال ابن الوزير: (لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم؛ بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار) أهـ إيثار الحق على الخلق ص (415).
وقد نص العلماء على أن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل شرعي، ليس من التأويل المستساغ بحال، إذ بذلك تسلط المتأخرون على النصوص، وقالوا نحن نتأول، فسموا التحريف تأويلاً، تزييناً وزخرفة ليقبل منهم (أنظر شرح العقيدة الطحاوية لأبن أبي العز الحنفي، عند كلامه حول رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة) وقد ذم الله تعالى من يزخرف الباطل ويزينه ليلبس أمره على الناس فقال تعالى:
((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)) الأنعام (112).
¥