[بين خروفين-من روائع الرافعي -]
ـ[توبة]ــــــــ[19 - 12 - 07, 01:19 ص]ـ
< TABLE cellSpacing=0 cellPadding=0 width="98%" align=center border=0> بين خروفينhttp://www.aljamaa.net/ar/images/vide.gifhttp://www.aljamaa.net/ar/images/vide.gif إجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سمنه حتى ضاق جلده بلحمه، وسَحَّ بدنه بالشحم سحا، فإذا تحرك خلته سحابة يضطرب بعضها في بعض، ويهتز شيء منها في شيء؛ وهو أصوف، قد سبغ صوفه واستكثف وتراكم عليه، كأنما يشعرأنه يلبس مسرات جسمه لا ثوب جسمه؛ وهو من اجتماع قوته وجبروته أشبه بالقلعة، ويعلوها من هامته كالبرج الحربي فيه مدفعان بارزان. وتراه أبدا مصعرا خدا كأنه أمير من الأبطال، إذا جلس حيث كان شعر أنه جالس في أمره ونهيه، لا يخرج أحد من نهيه ولا أمره.
وأما الآخر فهو جَذَعٌ في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يُضحَّى، ولكن جيء به للقرم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أكولة؛ وذاك يُتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعاما لأهل الدار.
وكان في لينه وترجرجه وظرف تكوينه ومرح طبعه، كأنما يصور لك المرأة آنسة رقيقة متوددة. أما ذاك الضخم العاتي المتجبر الشامخ، فهو صورة الرجل الوحشي أخرجته الغابة التي تخرج الأسد والحية وجذوع الدَّوحة الضخمة، وجعلت فيه من كل شيء منها شيئا يخاف ويُتقى.
وكان الجذع يثغو لا ينقطع ثغاؤه، فقد أخذ من قطيعه انتزاعا فأحس الوحشة، وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقا واضطرابا؛ وكان لا يستطيع أن ينفلت، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عدوا.
أما الكبش فيرى مثل هذا مسبة لقرنيه العظيمين، وهو إذا كان في القطيع كان كبشه وحاميه والمقدم فيه، فيكون القطيع معه وفي كنفه ولا يكون هو عند نفسه مع القطيع؛ فإذا فقد جماعته لم يكن في منزلة المنتظر أن يلحق بغيره ليحتمي به فيقلق ويضطرب، ولكنه في منزلة المرتقب أن يلحق به غيره طلبا لحمايته وذماره، فهو ساكن رابط الجأش مغتبط النفس، كأنما يتصدق بالانتظار ...
فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئا لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يطعم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول.
وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فإنه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس، ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعا. فأراد الكبش أن يتفرج مما به، وينفس عن صدره شيئا، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويخضِم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارها يا ابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علما لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقه علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد.
قال الصغير: أتعني الذئب؟
قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو الكشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرني هذين ترس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فإن لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل. وهذا القرن الملتف الأعقد المدرب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلا، ولا يقدم علي إلا توهم الذئبية للخروفية، فإن أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غير أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية ... ! فما يعلمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرَن،
¥