[الثالثة] أيضاً الذكر يكون به القوة البدنية، ونشاط القلب وقوته، وهذا ما يحتاجه طالب العلم، ومبتغي مداومة الحرص على الحفظ والطلب، قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود:52)، فالاستغفار يزيد من القوة، وقصة علي بن أبي طالب وزوجه فاطمة رضي الله عنهم وطلبها للخادم ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأن يسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمدانه ثلاثاً وثلاثين، ويكبرانه أربعاً وثلاثين وقال بأنه خير لهما من خادم، وذلك لأن هذا الذكر يزيد من قوتهم.
قال ابن القيم: (و حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدّ الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا).
وقال: (وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابة أمراً عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيما).
ثانيا: البعد عن المعاصي، لأنها صدأ القلوب كما جاء في بعض الآثار، وتدخلها الظلمة والوحشة، ويروى أن بعض السلف كان يسير مع تلميذ له فكأنه نظر إلى منكر، فنهره شيخه وقال لتجدن عاقبتها ولو بعد حين!، فقال التلميذ: فما مضت الأيام والليالي إلاّ وأنا قد نسيت القران الكريم!، وقد قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 282)، وقد كان فيما أنشد الشافعي وهو مشهور قوله:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي
قال سهل التستري: (حرام على قلب يدخله النور وفيه شي مم يكره الله عز وجل).
ثالثاً: تدريب العقل، وتنشيط الذاكرة، وهو ما يسمى اليوم بالرياضة الذهنية، بمعنى: أن المرء ينبغي أن يعود نفسه على الحفظ ولا يعتمد دائما على الكتابة والتسجيل اليوم بأجهزة التسجيل، فهذا مما جعل الناس يوكلون حفظ العلم إلى ذلك وتركوا الحفظ، ولهذا فإن من كان قبلنا أقوى حفظاً، ومن في البادية أقوى حفظاً لأنه يعلم أنه إذا لم يحفظ في أقرب وقت وإلا سوف تضيع هذه المعلومة، ويكون التدريب بحفظ النص القصير في فترة زمنية قصيرة، ثم يأخذ نصاً مثله ويحاول حفظه في وقت أقصر من سابقه، كأن يفرض على نفسه حفظ أربعين بيتاً من ألفية السيوطي في ثلاث ساعات، ومن الغد يحاول حفظ خمسين بيتاً في الوقت نفسه، ومن بعد غدٍ يحفظ ستين بيتاً في الوقت نفسه فيصبح الأمر عليه كلما يسهل، وأعرف بعض الإخوان ممن كان يشق عليه حفظ الأربعين النووية، ومع إصراره وتدرجه في الحفظ: حفظ الأربعين وعمدة الأحكام بل زادت رغبته للحفظ إلى ما هو أطول، وعندما عرضوا عليه بعض الكتاب المختصرة قال هذا سهل أحفظه في يوم!!، فانظر كيف آل الأمر بعد أن كان يتعذر عليه حفظ الأربعين النووية!!.
رابعاً: كتابة المحفوظ ولو أكثر من مرة، وقد جاء في الحديث: (قيدوا العلم بالكتاب) وأنشد الشاعر: العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الموثقة فما بلغك من علم فقيده كي لا يضيع وكرر النظر فيه، بل كرر كتابته عشرات المرات حتى تحفظه، وقد كان من العلماء من كان يكرر كتابة الكتب حتى يحفظها ومن ذلك:
ما ذكره الذهبي عن ابن الخاضبة الدقاق أنه كتب صحيح مسلم بالأجرة سبع مرات.
وذكر عن ابن مرزوق الهروي أنه كتب سنن الترمذي ستّ مرات.
وذكر عن أبي الفضل المقدسي المعروف بابن القيسراني أنه كتب الصحيحين وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة وسنن ابن ماجة عشر مرات، وذكر أنه بال الدم في رحلته في طلب الحديث مرتين.
وذكر عن ابن الجوزي أنه كتب بيده ألف مجلد.
ومنهم من كان يكتب الحديث في ورقة صغيره ينظر إليها بين الفينة والأخرى حتى يحفظه، وما أجمل ما يرى اليوم من بعض طلاب العلم من حمل كتاب الجيب الصغير تسجل فيه الفوائد، والاشكالات، حتى تحفظ، وكلما امتلأ كتاب أبدله بغيره وهكذا.
¥