يعشق لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة! إذاً قد سرت في الأمة روحاً جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هُدَّت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة ومتعبين، ولكن وجد من هم أضعف منهم، ومن هم أشد في التعب منهم، فانتصروا عليهم، وتماماً مثل الجدار المتصدع إذا وضعت يدك على مثل هذا الجدار سقط، وليس هذا من قوة يدك , ولكن من قوة ذلك الجدار، وما انتصر على أمة الإسلام إلا لضعفها لا لقلة أعداءها، فهنا ذكر لنا صلاح الدين في استجابة الأمة.
ز - قيادة علمية على طريق النصر:
ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين .. جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي العادل إلى صلاح الدين يقول له: " إن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته ـ العالم يقول للقائد والأمير - والمعاصي في كل مكان بادية , والمظالم في كل موضع فاشية ".
يعني لا بد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة.
ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: " إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به ".
ويقول له أيضا: "ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلان، فكل هذه مشاغل وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله ولا نُؤمَن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، واستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلو لا أنها تسد طريق دعاءنا لكان جواب دعاءنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل ".
هذه القيادة العلمية الراشدة الموجِّهة التي تكشف الخلل، وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما في الأمة وخالقها قبل أن يدخلوا في معركة مع الأعداء هذه القيادة يكون لها دور كبير في النصر.
ح - تحريض وإباء تحت الحصار:
ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المحاصرون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بصلاح الدين ليفكوا عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له:
" إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فأبصروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا ـ ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون ماذا يقولون لصلاح الدين، فهذه عزائمنا وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له فأما نحن فقد فات أمرنا ـ نحن قد بعنا أنفسنا لله وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداً ".
ط - روح لا تَكِلَّ تجاه من كلّ:
ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين وترابطهم , وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، وقد أراد هذا الملك أن يكتب صلحاً معه قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فأرسل إلى صلاح الدين رسولاً يقول له: إن لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا سيضطر مولانا إلى أن يشتي في هذه البلاد - يعني سيدركه الشتاء ولا يستطيع أن يتحرك أو ينتقل - فماذا كتب له صلاح الدين؟ كتب له كتاباً نفيساً وملفتاً، يقول:
" أما النزول عن عسقلان - يعني ترك الحصار - فلا سبيل إليه، وأما تشتيته- يعني بقاءه هو وجنده في هذه البلاد - فلا بد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد , ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام ـ إن شاء الله ـ يعني إن ذهب أو بقي فسيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل" ..
ثم يقول: " وإذا سهل عليه أن يشتي هنا، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل عليّ، أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي , وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله نصره ".
من أهازيج النصر:
¥