فالأوّلُ: أصبحَ الآن نادرًا جدًّا، فقلَّ أن نجدَ رجلاً رُزقَ حافظة ً كبيرة ً، وجُبلَ على ذلكَ، وقد كانوا يوجدونَ قديمًا، ولا زالَ يوجدُ منهم بقايا، إلا أنّهم قلّة ٌ قليلة ٌ، والسببُ أنّ كثرة َ الشغل ِ، وضعفَ الخلق ِ، وانصرافَ الهمم ِ إلى التوافهِ، أعقبَ- بمرّ الزمن ِ- ضعفًا في الحفظِ، وبطئًا فيهِ.
وأمّا الثّاني: فهو الذي عليهِ المعوّلُ الآنَ، وذلكَ أن يتعاطى الطالبُ من أسبابِ الحفظِ ما يعينهُ على تثبيتِ حفظهِ، وذلك كارتيادِ أماكنَ صالحةٍ للحفظِ، وكذلك أن يكرّرَ المحفوظَ مرّاتٍ ومرّاتٍ حتى يحفظَ، ومن ذلكَ أن يختارَ في حفظهِ الأسهلَ ثم الأسهلَ، ثمّ مع مرور ِ الوقتِ تتكوّنُ لديهِ ملكة ٌ صالحة ٌ في الحفظِ، ويكونُ ذهنهُ قد اعتادَ على سرعةِ الحفظِ والاستيعابِ.
وقد قرأتُ في سيَر ِ الكثير ِمن المعاصرينَ، من كبار ِ أهل العلمِ، فوجدتهم حينما كانوا يحفظونَ يكرّرونَ المادة َ المحفوظة َ كثيرًا، ربّما مئةًَ أو مئتي مرة، حتى ترسخَ في ذهنهِ ويحفظها، فالحفظُ يحتاجُ إلى معاناةٍ، ولكنّ لهُ ثمرة ً جزاءً، أعظمُ من تعبهِ وجهدهِ.
وفي الحفظِ يُبدأ بالأهمّ فالأهم ِ.
وأهمّ ما ينبغي حفظهُ كتابُ الله تعالى، فهو علمٌ ودرسٌ ووعظٌ وتأريخٌ وهدى ونورٌ، فمن حفظهُ فقد فُتحَ له خيرٌ كثيرٌ، وهو بحمدِ الله كتابٌ ميسّرٌ للذكر ِ، وللحفظِ، ومن رام حفظهُ حفظهُ، وأعرفَ شخصًا كان يحفظُ من القرءان ِ قدرًا لا بأسَ بهِ، ثم انكفأ على نفسهِ في شهر ٍ واحدٍ، حتى أكملَ حفظهُ كلّهُ.
وبعدَ القرءان ِ أو معهُ لا بدّ من حفظِ شيءٍ من السنّةِ النبويّةِ على صاحبها الصلاة ُ والسلامُ، مثل الأربعين ِ النوويةِ وتتمتها لابن رجبٍ، ثم بعد ذلكَ عمدة الأحكام ِ للمقدسي، ثم كتابُ بلوغ ِ المرام ِ لابن حجر ٍ، ثم ينظرُ في أحاديثِ رياض ِ الصالحينَ، ويحفظُ ما أمكنهُ منها، وإن قدرَ على القراءةِ في كتبِ السنّةِ الأخرى، وكرّرَ القراءة َ، فلا بدّ- إن شاءَ اللهُ- مع مرور ِ الوقتِ من حفظِ عددٍ كبير ٍ منها، أو ترسّخهُ في ذهنهِ.
وتكرارُ أي مادةٍ علميّةٍ سيجعلها مركوزةٍ في الذاكرةِ ومحفورة ً فيها، ولن تغيبَ بحول ِ اللهِ وقوّتهِ.
ولا بدَّ كذلكَ في الحفظِ من مذاكرتهِ ومعاهدتهِ ومراجعتهِ، وذلكَ أن الحفظَ يُنسى مع الأيام ِ، فإن لم يتعاهدهُ الرجلُ، ويكرّرِ النظرَ فيهِ مع الأيام ِ، وإلا أوشكَ أن يضيعَ سريعًا، وتذهبَ بركتهُ.
وفي الحفظِ: من رامَ الحفظَ جملة ً، ضاعَ منهُ العلمُ جملة ً.
وابدأ بصغار ِ العلم ِ في الحفظِ، تؤتى كبارهُ وثمارهُ.
الحاديَ عشرَ: اجعلْ قاعدتكَ في القراءةِ: أن تقرأ الكتابَ كلّهُ، أو أن تتركَهُ كلّهُ، وذلكَ لتتحمسَ للقراءةِ لكلِّ الكتابِ، حيث إن القراءةَ العشوائيةَ، أو الانتقائةَ لا تصلحُ أبدًا، وهي إلى اللعبِ أقربُ منها للفائدةِ، اللهمَ إلا لباحثٍ متخصّصٍ، همّهُ الرجوعُ إلى بطونِ الكتبِ لاخراجِ الفوائدِ، واستكمالُ بحثهِ.
الثانيَ عشرَ: احرصْ على قراءةِ أخبارِ أهلِ العلمِ، المهتمينَ بالقراءةِ، أو الذينَ كانت لهم همّة عاليةٌ في البحثِ والقرءاةِ والمثابرةِ، كما حصلَ للجاحظِ، وابن الجوزي، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجرٍ، والسيوطي، والآلوسي، والرافعي، والعقاد، وعلي الطنطاوي.
فأخبارُ هؤلاءِ- كما في تراجمهم- مليئةٌ بما يشرحُ الصدرَ، ويزيدُ في الهمّةِ، ويحثُّ على السيرِ في نهجهم وطريقهم.
الثالثَ عشرَ: احذرْ من ادمانِ قراءةِ المجلاّتِ، أو الجرائدِ، أو مشاهدةِ التلفازِ، فهذه أعظمُ الصوارفِ عن القراءةِ النافعةِ، بل هي من أعدائها، واجعلْ قراءتكَ في الجرائدِ والمجلاتِ بقدرِ الضرورةِ فقط، اللهمّ إلا إن كانتِ المجلةُ مجلّةً علميةً، أو متخصّصةً في مجالِ دراستكَ، فحينئذٍ تأخذُ حكمَ الكتابِ، كما هو الحالُ في مثلِ مجلّةِ البيانِ، أو مجلّةِ الأزهرِ، أو مجلّةِ البحوث العلميّةِ، وغيرها.
الرابع عشر: هناكَ بعضُ العلماءِ لا بد أن تقتني كلّ كتبهم، حتى لو كانت في غيرِ تخصصكَ، وذلكَ لما تحتويهِ من الفوائدِ العظيمةِ، وكذلكَ عذوبةُ منطقهم، وحُسنُ إيرادهم.
¥