تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد صدق؛ فإن من شغل أوائل عمره، وعنفوان شبابه بطلب الفضائل لا بد له أن يفطم نفسه عن بعض شهواتها، ويحبسها عن الأمور التي يشتغل بها أترابه ومعارفه من الملاهي ومجالس الراحة، وشهوات الشباب، فإذا انتهى إليه ما هم فيه من تلك اللذات والخلاعات وجد في نفسه بحكم الشباب، وحداثة السن، وميل الطبع إلى ما هناك مرارة، واحتاج إلى مجاهدة يرد جامح طبعه، ومتفلت هواه ومتوثِّب نشاطه، لا يتم له إلا بإلجام شهوته بلجام الصبر، ورباطها بمربط العفة.

وكيف لا يجد مرارة الحبس للنفس من كان في زاوية من زوايا المساجد ومقصورة من مقاصر المدارس، لا ينظر إلا في دفتر ولا يتكلم إلا في فن من الفنون، ولا يتحدث إلا إلى عالم أو متعلم، وأترابه ومعارفه من قرابته وجيرانه وذوي سنه وأهل نشأته وبلده يتقلبون في رفاهة العيش ورائق القصف!؟

وإذا انضم لذلك الطالب إلى هذه المرارة الحاصلة له بعزف النفس عن شهواتها مرارة أخرى هي إعواز الحال، وضيق المكسب وحقارة الدخل - فإنه لا بد أن يجد من المرارة المتضاعفة ما يعظم عنده موقعه، لكنه يذهب عنه ذلك قليلاً قليلاً؛ فأول عقدة تنحل عنه من عقد هذه المرارة عند أن يتصور ما يؤول به الأمر، وينتهي إليه حاله من الوصول إلى ما قد وصل إليه من يجده في عصره من العلماء، ثم تنحل عنه العقدة الثانية بفهم المباحث، وحفظ المسائل، وإدراك الدقائق؛ فإنه عند ذلك يجد من اللذة والحلاوة ما يذهب بكل مرارة، ثم إذا نال من المعارف حظاً، وأحرز منها نصيباً، ودخل في عداد أهل العلم كان متقلباً في اللذات النفسانية التي هي اللذات الحقيقية، ولا يعدم عند ذلك من اللذات الجسمانية ما هو أفضل وأحلى من اللذات التي يتقلب فيها كل من كان من أترابه.

وهو إذا وازن بين نفسه الشريفة وبين فرد من معارفه الذين لم يشتغلوا بما اشتغل به اغتبط بنفسه غاية الاغتباط، ووجد من السرور والحبور ما لا يقادر قدره. ص186 - 187

18 - وكنت في أوائل أيام طلبي للعلم في سن البلوغ أو بعدها بقليل تصورت ما ذكرته هنا فقلت:

سددت الأُذْنَ عن داعي التصابي فلا داعٍ لدي ولا ii مجيبُ

وأنفقت الشبيبة غير ii وانٍ لمجد الشيب فليهن المشيب

وقلت - أيضاً - رامزاً إلى هذا المعنى:

وأبدي رغبة لنجود ii نجد وشوقاً لانْتشاقي منه ii ريحاً

وما بسوى العقيق أقام قلبي وأضحى بين أهليه ii طريحاً

ص188

19 - وأما كون الرذائل حلوة الأوائل مُرة العواقب فَصِدْقُ هذا غير خافٍ على ذي لب؛ فإن من أرسل عنان شبابه في البطالات، وحل رابط نفسه فأجراها في ميادين اللذات - أدرك من اللذة الجسمانية من ذلك بحسب ما يتفق له منها ولا سيما إذا كان ذا مال وجمال، ولكنها تنقضي عنه اللذة، وتفارقه هذه الحلاوة إذا تكامل عقله، ورجح فهمه، وقوي فكره؛ فإنه لا يدري عند ذلك ما يدهمه من المرارات التي منها الندامة على ما اقترفه من معاصي الله، ثم الحسرة على ما فوَّته من العمر في غير طائل، ثم الكربة على ما أنفقه من المال في غير حلّه، ولم يفز من الجميع بشيء، ولا ظفر من الكل بطائل.

وتزداد حسرته، وتتعاظم كربته إذا قاس نفسه بنفس من اشتغل بطلب المعالي من أترابه في مقتبل شبابه؛ فإنه لا يزال عند موازنة ذاته بذاته، وصفاته بصفاته في حسرات متجددة، وزفرات متصاعدة، ولا سيما إذا كان بيته في العلم طويل الدعائم، وسلفه من المتأهلين لتلك المعالي والمكارم؛ فإنه حينئذٍ تذهب عنه سكرة البطالة، وتنقشع عنه عماية الجهالة بكروب طويلة، وهموم ثقيلة، وقد فاته ما فات وقد حيل بين العير والنزوان، وحال الجريض دون القريض، وفي الصيف ضيعت اللبن؛ فانظر - أعزك الله - أي الرجلين أربح صفقة، وأكثر فائدة، وأعظم عائدة؛ فقد بين الصبح لذي عينين، وعند الصباح يحمد القوم السرى. ص188 - 189.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير