تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[هكذا كانوا في الليل .. فهل نكون؟]

ـ[تيمية]ــــــــ[30 - 03 - 08, 11:06 م]ـ

د. علي بن عمر بادحدح

الليل المظلم مُشرق الأنوار، الصمت المطبق معطَّر بآيات القرآن، السكون الموحش مُبدد بانحناء الأصلاب وسجود الجباه، والجفاف اليابس مُبلل بدموع الأسحار، قلوب خاشعة، وأنفس زكية، وألسن ذاكرة، وأعين ساهرة، وجباه ساجدة، وجنوب متجافية، إنه مساء الصالحين وليل العابدين، إنها همة المتهجدين ولذة المتضرعين، إنه أنس المنفردين وحب المخلصين، إنها مجاهدة السالكين ومكابدة المرابطين، الله أكبر، ما أروع هذا الليل وما أحبه وما أمتعه وما أروعه.

أين هذا الليل من نوم طويل وركون ثقيل وغفلة تامة؟ شتان بين النور والظلمة، وبين السمو والدنو، وبين الثرى والثريا.

إنه قيام الليل أيها النائمون، اسمعوا النداء ممن عمروه بالطاعات، وملؤوه بالصلوات، فهذا " زمعة العابد" كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً فإذا كان السَحَر نادى بأعلى صوته: " يا أيها الركب المعرِّسون، أَكُل هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون"، فإذا طلع الفجر نادى:" عند الصباح يحمد القوم السرى" [صفة الصفوة 2/ 229 - 230].

دعني أريك ليلهم، بل دعني وإياك نقضي ليلة معهم، هذا أبو هريرة رضي الله عنه " كان هو وامرأته وخادمه يقسِّمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا " [نزهة الفضلاء 1/ 199]، فالليل كله صلاة ومناجاة، ودموع وخشوع، وذكر وشكر، والشعار لا للفرش الوثيرة، والنوم اللذيذ، إنهم الموصوفون بأبلغ قول وأعظم صورة في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]،القرآن " يرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام ولكن هذه الجنوب لا تستجيب، لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، والتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء " [الظلال5/ 2812 - 2813].

استمع إلى يزيد الرقاشي وهو يقول: " إذا نمتُ فاستيقظتُ ثم عدتُ في النوم فلا أنام الله عيني "، وتأمل هذا الحوار مع الفراش حيث كان عبد العزيز بن أبي رواد " يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل فكان يضع يده على الفراش ويتحسسه ثم يقول: ما ألينك، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته"، نعم " هؤلاء القوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام " [الظلال 5/ 2578]، ولله در الفضيل بن عياض وهو يعرض وضعاً شعورياً إيمانياً بديعاً حيث يقول: " أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظكِ من الآخرة"، ولا تنس أنهم كانوا بذلك التعب يتلذذون، وبالقيام يفرحون، وبعيون غير أعيننا إلى الليل ينظرون فهو عندهم " موطن تنتعش فيه الأرواح، وتبتهج وترتاح، وتتقلب بين مسرات وأفراح، وتكثر من المساءلة والإلحاح .. فهي قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وما يَرِدُ عليها في تلك المقامات " [الصلاة والتهجد ص301] ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا، وتذكيرهم وقد اعتبروا، وحثهم وقد سبقوا، فها هو الحسن ينادي بكم قائلاً: " كابِدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار " [الصلاة والتهجد ص303]، وقال أبو محمد الجريري: " قصدتُ الجنيد فوجدتُه يصلي فأطال جداً فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ وَوَهَنَ عَظْمُكَ ورقََّ جلدكَ وضعفتْ قوتكَ ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك، فقال: اسكت، طريق عرفنا به ربنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حملتها تتحمل، والصلاة صلة والسجود قربة ولهذا قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد" [الصلاة والتهجد ص309] وأبوسليمان الداراني يجدد هذا الفقه ويبين هذا الشعور بقوله:" أهل الليل بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعط الله

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير