الأولى: حفظ الكتاب من أبوابه. والمقصود بالباب هنا ما يندرج تحت موضوع معين كما في مصنفات السّنّة " كتاب بدء الوحي " و " كتاب الإيمان " و " كتاب العلم ". وفي صحيح البخاري سبعة تسعون كتاباً. وفي كل كتاب مجموعة أبواب تُقرّب مسائله وفوائده. والطّلبة النّبهاء يفرّغون أنفسهم ثلاثة أشهر, يحفظون فيها صحيح البخاري كاملاً, كل يوم كتاب. ومن تقاصرت همّته يحفظ كل أسبوع كتاباً, أي أنه يحفظ صحيح البخاري في ثلاث سنوات كاملات.
الثّانية: حفظ الكتاب عن طريق رواته: أي المسانيد, وقد صنّف الأئمة كتباً مفردة في هذا لا حصر لها: لعلّ من أشهرها " الجمع بين الصّحيحين " للحميدي و" جامع المسانيد" لابن الجوزي. وهذه الطريقة مفيدة لضبط مرويات كل صحابي على حِدة, والطّريقة التي قبلها مفيدة في معرفة فقه كل باب, وفي كلٍ خير.
ومن تجارب الحُفاظ المفيدة: أنهم يقومون بجرد الكتب السّتة المشهورة في مدّة وجيزة وبهذه الطريقة يستخرجون فوائد الكتب ودفائن المسائل الدّقيقة التي تخفى على من ضعفت همته عن الوقوف على عددٍ من كتب الحديث.وقد ذكر الإمام السّخاوي (ت. 902هـ). في ترجمة " برهان الدين الحلبي " أنه قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة وصحيح مُسلم نحو عشرين مرة (8)! ومثل هذا كثير في تراجم العلماء والنّبهاء.
ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها في هذا المقام, أن كثيراً من الطلبة المقبلين على علم الحديث يجهدون أنفسهم في حفظ نصوصه رواية, لكن يهملون الاشتغال بالحديث دراية, فلا يعرفون أحوال الرواة والروايات, ولا طرق إثبات الحديث, ولا التّمّييز بين الرجال العدول والرجال المجروحين في الأسانيد (9).
وجزى الله خيراً من عقد الدّورات السنوية في حفظ السّنة المحمدية التي تورث النّشء الاعتصام بالوحيين قولاً وعملاً, فإنها خير زاد في مثل أيامنا هذه. ومثل هذه الدّورات تُعَدّ محاضن تربوية تجمع فيها طاقات شباب الأمة ليكونوا درعاً يحمي الأمة بالعلم والهداية والقدوة الحسنة, وقد تمنّى الخليفة العباسي المنصور قبل وفاته هذا الزّاد الروحي, فقد قيل له: هل بقي من لذات الدنيا شيئ لم تنله؟ قال بقيت خصلة: أن أقعد في مصطبة, وحولي أصحاب الحديث, ويقول المستملي: من ذكرت رحمك الله؟ فأقول: حدثنا فلان, قال حدثنا فلان, قال حدثنا فلان: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (10). اللهم ارزقنا حفظ الوحيين والعمل بهما وتعليمهما. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش والمراجع:
1ـ على سبيل المثال انظر كتاب " حياة الألباني " لمحمد الشيباني: (1/ 100 ـ وما بعدها).
2ـ " الإفادات والإنشادات ": (ص/ 163).
3ـ " الإمام ابن المديني ـ ومنهجه في نقد الرجال " (ص/9 13).
4ـ المصدر السابق.
5ـ المصدر السابق.
6ـ " التبصرة والتّذكرة في علوم الحديث " (ص/128) ـ طبعة الفرياطي.
7ـ انظر: " طليعة فقه الإسناد " لطارق عوض الله ـ طبعة دار المحجة.
8ـ " الضوء اللامع ": (1/ 141).
9ـ انظر " تدريب الراوي " للسيوطي, ففيه قواعد مهمة في هذا الباب.
10ـ " تاريخ ابن عساكر ": (8/ 124). ومثل هذه القصة حدثت للمأمون العباسي أيضاً, انظر أيضاً, " شرف أصحاب الحديث " للخطيب البغدادي: (ص/ 98).