تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال ابنُ القَيمِ - رَحِمَهُ اللهُ: وقد اخْتَلَفَتِ عِبَاراتُ النَّاسِ في مَعْنَى القّلْبِ السَّلِيْمِ، والأَمْرِ الجَامِعِ لذلك أنَّه الذي قد سَلِمَ مِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ تُخَالِفُ أمرَ اللهِ ونَهْيَهُ، ومِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ، فَسَلِمَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَاهُ، وسَلِمَ مِنْ تَحْكِيمِ غَيْرِ رَسُولِهِ، فَسَلِمَ مِنْ مَحَبَةِ غَيْرِ اللهِ مَعَهُ، ومِنْ خَوْفِهِ، ورَجَائِهِ، والتَّوَكُلِ عَليهِ، والإنابةِ إليهِ، والذُّلِ له، وإيثارِ مَرْضَاتِهِ في كُلِّ حالٍ، والتَباعُدِ عَنْ سُخطِهِ بِكُلِّ طَرِيْقٍ، وهذا هو حَقيقةُ العُبُودِيَّةِ، التي لا تَصْلُحُ إلا للهِ، سُبْحَانَهُ وتَعالى وحْدَهُ، فالقَلْبُ السَّلِيْمُ هُوَ الذِّيْ سَلِمَ مِنْ أنْ يَكونَ لِغَيْرِ اللهِ فِيْهِ شِرْكٌ بِوَجْهٍ مَّا ..

والقلوبُ – أيُّهَا المُحِبُّ – أربعةٌ:

1 - قَلْبٌ تَقِيٌ، نَقِيٌ فِيْه سِرَاجٌ مُنِيْرٌ، قَلْبٌ مَحْشُوٌ بِالإِيْمَانِ، ومَلِئْ بِالنُّوْرِ الإيْمَانِيِّ. وقَدْ انْقَشَعَتْ عَنْهُ حُجُبُ الهَوَىْ والشَّهَوَاتِ، وأقلعتْ عنه تلك الظُلُمَاتُ، مَلِئٌ بالإشراقِ، ولو اقتربَ منه الشَّيْطانُ لَحَرَقَهُ، وهذا هو قَلْبُ المُؤْمِنِ.

2 - وقَلْبٌ أَغْلَفُ مُظْلِمٌ؛ وذلك قلبُ الكَافِرِ: (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 88).

وهذا القَلْبُ قدْ اسْتَرَاحَ الشَّيْطانُ مِنْ إلقاءِ الوَسَاِوسِ فِيْهِ. ولِهذا قِيْلَ لأبْنِ عَبَاسٍ - رَضيَ اللهُ عنهما-: (أنّ اليهودَ تَزْعَمُ أنَّها لا تُوَسوِسُ في صَلاتِهَا) فقال: (ومَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بالقَلْبِ الخَرِبِ؟!!.

3 - وقلبٌ دَخَلَهُ نُورُ الإيْمَانِ، وأُلقِىَ النُّورُ فيْهِ، ولَكِنْ عليه ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ، وعَوَاصِفُ مِنَ الهَوَىْ، وللشَّيْطَانِ عَلَيْهِ إِقْبَالٌ وإدبارٌ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّيْطَانِ سِجَالٌ، فهو لِما غَلَبَ عليه مِنْهُما، وقد قال اللهُ- تعالى - في أقوامٍ: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) ((آل عمران:167)).

4 - وقَلْبٌ مُرْتَكِسٌ مَنْكُوسُ؛ فذلك قلبُ المُنافِقِ، عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وأبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ قال تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (النساء:88).

وفي القَلبِ قُوَّتَانِ: قُوَّةُ العِلْمِ في إدراكِ الحَقِّ، ومَعْرِفتِهِ والتَّمْيِيْزِ بَيْنَهُ وبَيْنَ البَاطِلِ، وقُوَّةُ الإرادةِ والمَحَبَّةِ في طَلَبِ الحَقِّ ومَحَبَتِه، وإيثارِهِ على البَاطِلِ، فمنْ لَمْ يَعرِفْ الحَقَّ فهُو ضَالٌ، ومَنْ عَرَفَهُ وآثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، ومَنْ عَرَفَهُ وَاتبَعَهُ فَهُوَ المُنْعَمُ عَلَيْهِ السَّالِكُ صِرَاطَ رَبِّهِ المُسْتَقِيمِ، يقولُ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وهذا مَوْضِعٌ لا يَفْهَمُهُ إلا الألبّاءُ مَنَ النَّاسِ، والعُقَلاءِ، ولا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إلا أهلُ الهِمَمِ العَالِيَةِ، والنُّفُوْسِ الأَبِيَّةِ الزَّكِيَةِ ".

إذا كان الأمرُ كذَلِكَ أيَّها المُحِبُّ، فاعْلِمْ أنَّ صَاحِبَ القَلْبِ الحَيِّ يَغْدُوْ ويَرُوْحُ، ويَمْسِيْ ويُصْبِحُ، وفيْ أَعْمَاقِهِ حسٌ ومُحَاسَبَةٌ لِدِقَاتِ قَلْبِهِ، وبصرِ عَيْنِهِ، وسِمَاعِ أُذُنِهِ، وحَرَكِةِ يَدِهِ، وسَيْرِ قَدَمِهِ، إحْسَاسٌ بِأنَّ الليلَ يُدَبَرُ، والصُبْحَ يَتَنَفَسُ، قَلبٌ حَيٌّ تَتَحَقَّقُ بِهِ العُبُودِيَّةُ للهِ عَلَىْ وَجْهِهَا وكَمَالِهَا، أحَبَّ اللهَ وأحَبَّ فِيْهِ، يَتَرَقَىْ فِيْ دَرَجَاتِ الإيْمَانِ والإِحْسَانِ، فَيَعْبُدَ اللهَ عَلَى الحُضُورِ والمُرَاقَبَةِ، يَعْبُدُ اللهَ كأنَّهُ يَرَاهُ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً، وأُنساً وإجلالاً، ولا يَزَالُ حُبُّهُ يَقْوِىْ، وقُرْبُهُ يَدْنُو حَتَّىْ يَمْتَلِئُ قَلْبُهُ إيماناً وخَشْيَةً، ورجاءً

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير