ـ[أم البخاري]ــــــــ[14 - 10 - 09, 11:33 ص]ـ
سبحان الله
ـ[الطيماوي]ــــــــ[31 - 01 - 10, 10:52 م]ـ
وصلْتَ، هل أقولُ: بعد فواتِ العمر، أم ما زال في العمر بقية تفرحُ بقدومك؟ المهمّ أنّكَ قد وصلْتَ، عُدْتَ إلى أمكَ بعد أكثر من عشرين عامًا، قضيتَها في الغربة، ماذا يا ولدي؟ ماذا أقولُ لكَ؟ هل كنتَ تشعر بما كانتْ تعاني منه أمُّك؟ على كل حال كانتْ تدعو لكَ بالتوفيق مع كلِّ صلاة، بل مع كلِّ رفة جفن.
أسوأ ما كنتُ أتوقعه أنكَ عُدْتَ وأنتَ ابن ثلاث وأربعين إلى نقطة الصفر، وأمُّك التي تريد أن ترفعك تعيش تحت الرقم صفر، لا أقول: بكثير، ولكن تحت الصفر بشكل واضح، لماذا يا ولدي لم تتّخذ قراركَ منذ زمنٍ بعيد؟ لماذا لَم تصدِّق أنك قد فشلتَ في بلاد الغُربة؛ حيث لا البلاد بلادك، ولا اللغة لغتك، ولا الناس ناسك؟ لماذا لَم تصدق فشلكَ إلاَّ في وقت متأخر جدًّا؟!
كنتُ كلما تأخرتْ رسائلكَ عني أشعر بأنَّ بعضي يموت، يموت ببطء؛ فأنتَ ولدي الوحيد، وأنا منقطعة عنك، ومات أبوك الذي كان يرعاني ويحاول أن يعوِّضَني عنكَ، يعزيني بغيابك، وبقيتُ وحيدة، صرتُ في غربة وأنا في بلادي، وكانت الرسالةُ التي تأتي منكَ بعد انقطاع تحييني، أو تحيي ما تبقّى مني مِن جديد، كنتُ أسارع إلى كتابةِ رسالة جديدة، رسالة واحدة، لا، رسائل، وكانتْ تصلك على أية حال.
أمَّا مكالماتُكَ الهاتفيَّة في السنوات الأخيرة، فقد كانتْ شيئًا آخر، إنَّها الروح التي تُرَدُّ إليَّ بعد أن تكون قد شارفتْ على الخروج: أمِّي، وما أحلاها من كلمة أسمعها ولو على بُعد آلاف الأميال! كنتُ أقبِّلُ سماعة الهاتف، أتحول إلى طفلةٍ صغيرة حالمة، يا ألله! ما أجمل ما كنتُ أحلم به! وتنقطع اتصالاتُكَ أشهر، ثم تُعاوِد الاتِّصال، كنتُ أتمنَّى أن يكونَ لكَ رقم ثابتٌ لهاتف، فأتَّصل بك أنا كل أسبوع، نعم مستعدة للاتِّصال كل أسبوع مهما كلَّفَني، أوفِّر مِن طعامي، من كل شيء، فأنتَ الزاد الذي أقتاتُه لأعيش على أمل، أمل جميل؛ ابني يكلِّمني، إنَّه الدواء الذي كان يشفيني من بعد علة، وما أكثر العلل والأمراض التي أصابتْني! ولكنْ قليلون جدًّا هم الذين كانوا يدرون بي، كنتُ أُخَبّئ عنكَ أي خبر يزعجك، ولَم تنقطع أحلامي بعودتكَ وأنتَ في أحسن الأحوال.
والآن يا ولدي، ماذا تريد؟ ما تريد منِّي أن أقدِّم لك؟ هل يروق لكَ أن أبيعَ البيت وأعطيك ثمنه من أجل أن تبدأ حياةً جديدة؟ لا بأس، صحيح أنه بيتٌ متواضع، ولكنني على استعدادٍ لأن أبيعه وأبيع كلّ شيء من أجلكَ، ولكن عندي شرطٌ وحيد: ألا تتركني بعد الآن، ألا تبتعدَ عني، تزوَّج؛ مُنيةُ حياتي أن تتزوَّج، ولكن احسبْ حسابًا كي أعيش معكما، خذْ ثمن البيت وافتح عملاً لعلَّ الله يبارك لكَ في رزقِكَ وأنتَ في بلدِكَ.
انكبَّ على يدي أمِّه يقبلهما، ثم على وجنتيها، ضمَّته إلى صدْرها، بكيا معًا، وصمتا ساعات.
في اليوم التالي تكلَّم، قال لأمِّه:
• أمَّاه، هذا بيتنا معًا، لن أبيعه، ولن أُدخِل امرأةً غريبة بيننا، لقد فاتني قطارُ الزواج بعد هذا العمر يا أمِّي، ولكن لَم تفتني حالة الرضا التي يجب أنْ أعيشها.
أمِّي، أنا عدتُ من الغربة لأرعاكِ وأبرَّكِ، صحيح أنَّني قد تأخَّرتُ في قراري، ولكنني أخذتُهُ، لقد عشتُ في بلادٍ كثيرة، وشاهدْتُ عن قرب كيف يعيشُ الناس هناك، وكيف يبنون، وكيف يزرعون، وكيف يكوِّنون علاقاتهم الاجتماعية، ولكنَّني لم أذقْ ودًّا حقيقيًّا مِنْ أحدٍ منذ أن غادرتُ بلدي، الود يا أمِّي شيءٌ عجيبٌ، وفقْدانه يعني فقدان ألذّ ما في الحياة.
أجابتْه أمُّه وهي تمدُّ يدها إلى خدِّه لتمسح دمعةً نفرتْ:
• الود وحده لا يكفي يا ولدي، أنتَ بحاجة إلى عمل، لقد كنتُ أعمل في غيابِكَ بالإبرة والخيط في نسج قطع فنية وأبيعها، وأصرف على نفسي من هذا العمل، صدقني لَم أقْبَلْ أن يعطيني أي خالٍ من أخوالِكَ الثلاثة قرشًا واحدًا، الله يكفيني مِن عملي ومن بركته، وأنت بحاجة الآن إلى عمل، ولكن ماذا ستعمل؟
ابتسم وقال:
• سأشتغل في نسج القطَع الفنية وأريحكِ من هذا العمل، فعيناكِ يجب أن ترتاحا، ألا تعلمينني هذا الفن الجميل؟
¥