تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتما التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي.

وما تمنيت أن أكون غنيا إلا اليوم، لأستطيع أن أواسيها باليد والمال، لا بالقلم واللسان، ولكني أديب لا يملك إلا قلبه ولسانه، وهاتان كلمتان من القلب كلمة لها هي، وكلمة للمستمعين.

أما الكلمة التي هي لك، فهي قصة ولكنها قصة لم يخترعها خيال كاتب، ولم يؤلفها قلم أديب بل ألفت فصولها الحياة وجئت أرويها كما كانت .. أرويها لتعلمي وتعلم كل أم بائسة وكل ولد نشأ في الفقر أن المجد والعلاء رهن بأمرين: بتوفيق الله أولا، والله يوفق كل عامل مخلص، وبالعلم والجد ثانيا. واسمعي الآن القصة: كان في دمشق نحو أربعين سنة عالم جليل القدر كريم اليد موفور الرزق داره مفتوحة للأقرباء والضيوف وطلبة العلم وموائده ممدودة، وكان من ذوي المناصب الكبار والمكانة في الناس. ونشأ أولاده في هذا البيت لا يعرفون ذل الحاجة ولا لذعة الفقر ولكنهم أصبحوا يوما – الولد الكبير البالغ من عمرة ست عشرة سنة، وإخوة له تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر- أصبحوا وقد توفي والدهم. وارتفع الستر فإذا التركة ديون للناس فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدين ثم تركوا الدار الفسيحة ونزلوا تحت الرصاص يفتشون عن دار يستأجرونها فوجدوا داراً ... أعني كوخا .. زريبة بهائم، مخزن تبن في حارة قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه وضيقه " محل ما ضيع القرد ابنه" هذا هو اسمه صدقيني. في غرفتين من اللبن والطين، في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمس والضياء فلا تراهما قط الشمس، ولا يستطيع أن يدخلهما الضوء، ليس فيهما إلا ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها اصبعان، تمشي مكشوفة إلى هذه الحارة تتلقى في هذا الطريق الطويل كل ما يلقى فيها من الخيرات الحسان ... وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز نمرة ثلاثة ... يضيء تارة ويشحر تارات .. والسقف من خشب عليه طين، إن مشت عليه هرة ارتج واضطرب، وإن نزلت عليه قطر مطر وكف وسرب. هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات ما تحتهن سرير، تغطيهن البسط والجلود كان ينام هؤلاء الأولاد الذين ربوا في النعيم وغذوا بلبان الدلال، تسهر عليهم أم مثلك حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البق الذي يغطي الجدران وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة والماء الذي ينزل من السقف. تظل الليل كله ساهرة تطفئ بدمع القلب حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، والأقرباء الموسرون الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد كيف تخلو عن الأولاد وأنكروهم حتى جاءوا يوما يزورون جار الدار الموسر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا والله عليهم الباب، لم يعنها أحد ولم يسعدها إلا أخ لها في مصر أمدها بجنيهات مصرية قليلة لم يكن يطيق أكثر منها. في هذا الجو يا سيدتي .. وماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد واخوته على الدرس والتحصيل ... وكانت أطراف البلد للثوار، ليس للفرنسيين إلا وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم يخترقون جبهة الحرب القائمة، وصبروا ووثقوا بالله وأعانهم الله ووفقهم حتى صاروا .. ما تقدرين أنهم صاروا الآن؟ صار الولد الثاني قاضيا، وصار أديبا شاعرا مصنفا، والثالث أستاذا كبيرا موفقا وداعية وأديبا، أما الولد الأكبر فلا أقول عنه شيئا لأن شهادتي فيه مردودة فهو الذي لا أفارقه أبدا، والذي أكون معه ليلي ونهاري وأراه كلما نظرت في المرآة وهو فوق ذلك يحمل اسما مثل اسمي. وما قصصت هذه القصة إلا تسلية لك وتهوينا عليك ولتوقني أنه ربما كان ينتظر ولديك هذين اللذين لا يجدان الغذاء والكساء، ينتظرهما مستقبل يحسدهما عليه أبناء الأغنياء. فقولي لولديك ألا يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق، أو الكتاب الجديد، أو المال الفائض، فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء .. وكاتب هذه السطور وإن لم يكن من النابغين الذين تضرب بهم الأمثال كان يجيء إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه، وقد عجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين. وأنا أعرف والله في أعلام البلد اليوم من نشؤوا في أشد الفقر، ثم نالوا بالعلم أوسع الغنى، وأعلى المناصب. وأنا أعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيها، وابن رئيسها شيئا كالآذن فيها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير